تعتبر قضية اللباس من أخطر القضايا المرتبطة بالوجود الإنساني منذ كان هذا الوجود، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله، ويندرج حكم فئة من الناس على أمر اللباس بكونه ثانويا أو قليل الاعتبار، ضمن الجهل بخطورة القضية. ومما لا شك فيه أن جهل تلك الفئة -وهي واسعة عريضة- يعتبر في حد ذاته من المعضلات الاجتماعية المؤسسة على تصور فج وسطحي لحقيقة اللباس، وكونه مقوما أصيلا من مقومات الكيان الإنساني، ينتج عن أي خرق يصيبه خرق في ذلك الكيان برمته، يظهر على مستوى العلاقات الاجتماعية، عوجا وانحرافا في التصرف والسلوك، يمتدان -بلا ريب- إلى مساحة عريضة من معالم الوجود الإنساني، وما يرتبط به من قيم وتصورات تتعلق بالعقيدة وخطة السلوك.
والواقع أن أغلب المظاهر والتداعيات التي تتعلق بالأثر التطبيقي والسلوكي للجهل بحقيقة اللباس، إنما هي انعكاس للوضع العام للجماعة الإنسانية، عندما تتخذ إلهها هواها في أي منشط من المناشط أو شأن من الشؤون، ويتعلق الأمر هنا بنظرة الإنسان إلى جسده، باعتباره مطية يمكن سوقها كيفما اتفق، ودفعها في أي اتجاه، فليس التعامل مع اللباس في علاقته بالجسد بهذا الاعتبار إلا واحدا من وجوه التصرف بالجسد، الذي يشكل، أي التصرف، ترجمة حرفية لما يحمله صاحب التصرف من تصورات وأفكار، قد تكون تصورات هوجاء منفلتة ذات طابع بدائي، أو مندرجة في إطار فلسفي ذي مبادئ ومنطلقات، تزعم لنفسها تفسير الوجود الإنساني ووظيفته على ظهر هذه الأرض.
وإن الناظر في موقف الإسلام من اللباس، لا بد أن يدرك خطورة شأنه لديه، ما دام الله سبحانه وتعالى قد حدد معالمه ورسم ضوابطه التي لا يجوز تنكبها والخروج عنها، ولو كانت مما يجوز فيه الاختلاف أو يترك للأذواق تتصرف فيه كيف تشاء، لما حدده رب العزة جل جلاله بدقائقه التي لا تدع مجالا لتملص أو تحايل، فإما أن تترسم تلك الدقائق والجزئيات بدقة وأمانة، وإما أن يكون التعامل مع اللباس خروجا عن شرع الله وعصيانا لأمره، تقاس درجاته بمقدار البعد فيه عن الضوابط التي وضعها الستار العليم حفظا لكرامة الإنسان وإنسانيته، ووضحها الفقهاء فيما يمكن أن نصطلح عليه بفقه اللباس، وفي الحالة الثانية لا مفر من وقوع الكارثة في سفينة المجتمع، ومن تجمع السيول الجارفة التي تتحول إلى طوفان لا يبقي ولا يذر. وإن الواقع الذي تعيشه سفينتنا المترنحة والمتأرجحة بين أمواج كالجبال، لدليل صارخ على ما ينتج عن خرق اللباس -المتمثل في التهتك والعري والسفور، أي في تجرد النساء من جلابيبهن، وإبداء زينتهن أو الكشف عن مفاتنهن- من مفاسد رهيبة وفتن هوجاء، فليس من قبيل المبالغة أبدا القول بأن عصيان الله عز وجل والتمرد على أمره في قضية اللباس يعتبر واحدا من أشرس المعاول التي تعمل فتكا وخرابا على صعيد السفينة الماخرة عباب الحياة، فقد وصف الرسول الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام فتنة النساء بأنها أشد الفتن على أمة الإسلام. يقول عليه الصلاة والسلام: >ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء<(رواه البخاري في صحيحه) ومن الأكيد أن هذه الفتنة المحذر منها والمأمور باتقائها لا يمكن أن تكون متأتية من المرأة باعتبارها امرأة، وإنما باعتبارها امرأة متهتكة متفلتة من قيم الحياء، تتقصد زرع الفتن بنصبها لشراك الإثارة والغواية، وتأثيثها لمملكة الشيطان التي تشيع فيها الرذيلة ويروج فيها الفجور، وإن جردا موضوعيا لما يغص به العالم من أوبئة وجرائم وآثام، لا بد أن يفضي إلى الوقوف على هول ما يمثل نتاجا لإسهام المرأة عندما تتحول إلى مطية للشيطان، وأداة طيعة له في تحقيق أغراضه ومخططاته الرامية إلى محاربة قيم الحق والخير والجمال، وإرساء مملكة الشر والباطل والقبح. وإن الذي يؤكد خطورة التعري من لباس الستر والحشمة والحياء، وتحول المرأة بسببه إلى معول هدم يهدد أمن السفينة، هو انتباه عتاة الفساد في الأرض إلى جعل ذلك التعري عنوانا عريضا وأداة مركزية توصلهم إلى ما يبغونه من تلطيخ البشرية بأقصى ما ينشدون لها من عار وبوار، ومن ضعف وهوان، يجعلانها في موقع العبد الذليل الذي يؤمر فيطيع، إما عن وعي واقتناع، وإما عن غفلة واستلاب، ولقد أصبح العري فعلا عنوانا، والتعري هدفا تؤطره مؤسسات رأسمالية ضخمة لها أباطرتها وخبراؤها ومهندسوها، وقنوات تمرير أفكارها ونماذجها، وتؤطر كل هذه العناصر فلسفة مادية فجة تستهدف مسخ الإنسان، وتحويله إلى كائن تافه هزيل يستخفه كيد الشيطان والنساء.
إن الذي يتأمل مشهد سفينتنا اليوم يرتد منه البصر كسيفا، ويمتلئ صدره غيظا وحزنا على ما نالها من ثقوب وتشوهات، تصور من قبل أباطرة الفساد والإفساد على أنها تحضر ومدنية، فحيثما وليت وجهك تصدمك مظاهر التهتك والعري التي تعددت ألوانها وأشكالها التي تفتقت عنها جعبة أباطرة الموضة والأزياء، وهي أشكال لا تنتهي عند حد، ولكنها تلتقي في ثابت لا تحيد عنه، هو كشف المفاتن وإبراز العورات، وتأجيج الشهوات. إن من شأن خرق اللباس أن لا يظل خرقا على مستوى الشكل والمظهر، بل إنه لينفذ إلى المخبر والجوهر، وتلك حقيقة ترتبط بطبيعة اللباس باعتباره جزءا لا يتجزء من كيان الإنسان وعقيدته وتصوره للكون والحياة وما بعد الحياة. إن خرق اللباس بدءا من نية التعري والانكشاف، مرورا بما تنثره الأجسام العارية أوالكاسية العارية من سموم، وما تسعره من نيران الفتنة والغواية، انتهاء إلى السقوط المريع في مستنقعات الفاحشة والمعصية، إن ذلك الخرق ليعد من أشد الخروق تهديدا لسفينة المجتمع بالغرق ولو بعد حين، وقبل ذلك تهديدا لأمنها النفسي والروحي، وإن من أوجب الواجبات على القيمين عليها المسؤؤلين عن مصيرها أن يتفطنوا إلى الشرور التي تداهم السفينة من باب العري والاستهانة بأمر اللباس، وترك أمره للمفسدين، وصدق الله القائل: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُومِنُونَ}.
د. عبد المجيد بنمسعود