المعول في انتظام أمر سفينة المجتمع وسلامة إبحارها في خضم العمران البشري الهائل على التزام مقتضيات النظام، شأنها في ذلك شأن السفينة المصنوعة لخوض لجج البحار، ومن شأن كل نقص أو مساس بتلك المقتضيات أن ينجم عنه انزلاق إلى مهاوي الفوضى تقدر درجة خطورته بمقدار ذلك المساس، ومن ثم فإن حظ المجتمعات من التوازن والأمن والسلامة، ومن التوفيق والنجاح في إصابة أهدافها وتحقيق مآربها، يتناسب طردا مع أخذها بأسباب النظام، وقد دلت تجارب التاريخ وخبرات العارفين أن الصيغة المثلى لأي نظام، إنما هي رهينة بالدين الحق باعتباره منظومة من القيم والنظم والتشريعات، التي يجدر أن تشكل روحا سارية في كل مظهر من مظاهر الحياة على الأرض. وإن من يستقرئ أحوال سفينة المجتمع عندنا، يتكشف له هول الفوضى التي غدت تسحب ذيولها الثقيلة على كل موقع من مواقعها، على تفاوت في درجة الإصابة والتلوث بذلك الداء العضال. ومما لا شك فيه، أن أول معقل في سفينة المجتمع أتى عليه داء الفوضى، هو مركز التفكير، ومن ثم جهاز التصورات والمفاهيم التي يتم التعامل من خلالها مع سائر القضايا والشؤون، وهكذا تصبح الفوضى مع مرور الأيام، في ظل ضعف المناعة وغياب عوامل التصدي لزحفها على معالم الحياة، عنوانا بارزا وصارخا يطبع كل شيء، فالفوضى باتت قرينا لسلوك الإنسان مع نفسه، ومع أهله، ومع من تضمهم وإياه نفس السفينة، ويتقاسم معهم نفس الهواجس والهموم، وما ذلك إلا لما درج عليه من غفلة وشرود عن القيم الضابطة التي تجعله عنصرا منسجما داخل نسق الجماعة التي يجمعه وإياها نفس المصير، وهو يجد من نفسه انسياقا للإمعان في ذلك المسلك الغريب، بسبب الضعف المريع الذي بات ينخر جهاز الرقابة الاجتماعية، بفعل التسممات والتشوهات التي أصابت نواته الصلبة المتمثلة في القيم االكبرى، من قبيل مفهوم الإيمان، والحرية، و الكرامة والمساواة. إن المرء لتنتابه الحيرة، بل ويداخله الرعب وهو ينظر إلى ذلك الجهاز تعبث به الأيادي الآثمة التي تحللت من أي وازع من دين أو حياء، بل وحتى من عرف أو تقليد، ذلك أن تناسل أفراد الزمر الضالة التي انخرطت في حركة مهووسة لمحاربة الفطرة والسعي المحموم لتلويث ينابيعها، لا من حيث هي ينابيع مستعصية على التحريف والتبديل، ولكن من حيث إحاطتها بترسانة خرقاء من التأويلات والفهوم، للتشويش على الناس، وحجب حقائق الدين ومعالم الفطرة والسداد عنهم، ولو إلى حين ، قلت: إن ذلك التناسل من شأنه أن يقوي سلطان الفوضى، وما يرتبط به من أباطيل وأوهام، ويزيد من صعوبة عملية كسح الألغام، التي تناط بقوى الإصلاح التي تحمل على عاتقها مهمة التطهير، وأمانة إعادة الهيكلة والبناء. إن الملاحظ الحصيف إذ يقوم بفحص دقيق لمشهد الفوضى المدمرة التي تخترق سفينة المجتمع، وتسوقها عنوة نحو المجهول، لا بد أن يفضي به ذلك الفحص إلى اقتناع جازم، بأن أخطر جبهة تعمل على إدامة هذا الوضع الرديء وتثبيت مخالبه، إنما هي جبهة المصطلحات، وما يراد لها أن تحمله ـ بغير حق ـ من شحنات ، تستعمل لنسف المفاهيم الحقة، فيما يروم، أو تكثيف المشوشات حولها، بقصد طمسها، أوحجبها عن أكبر حشد يستطيعونه من الناس. ويستعمل أصحاب هذا الاتجاه الفوضوي كل القنوات والوسائل لتحقيق أهدافهم التي يخيل إليهم بفعل وعيهم الشقي أنها أهداف نضالية شريفة، وهي أبعد ما تكون عن الشرف أو النضال، وعلى رأس تلك الوسائل الإعلام، سمعيه ومرئيه.
وكنموذج لهذا السعي الهادف إلى نشر الفوضى الفكرية والسلوكية في سفينة المجتمع، لتتعرض هذه بفعل ذلك إلى هزات واضطرابات تهددها بالتمزق والفناء ولو بعد حين، قلت، كنموذج لذلك ما قدمته القناة المغربية الثانية في إطار برنامج” مباشرة معكم” ليوم الخميس 11 أكتوبر، والذي سيقت حلقته تلك لإحياء مناسبة اليوم الوطني للمرأة، ودعي للجلوس على منصة الحوار والنقاش أربع نسوة ورجل، أما النسوة فثلاثة أرباعهن يمثلن ما يسمى بالتيار النسواني ، الذي يخوض بشراسة واستماتة معركة الدفاع عن المرأة لتثبيت مواقعها داخل المجتمع، لا لأداء ما هو منوط بها من أدوار ووظائف ترتقي بالمجتمع، بل لمزاحمة الرجل في كل شيء، بصرف النظر عن مقتضى الخصوصية والتكامل، وأما الرجل فيعزف على نفس وتر النسوة الثلاث، وكأنه قد جيء به، وهو الذي قدم بصفته باحثا في علم الاجتماع، لتعزيز جانبهن، وتوفير الغطاء العلمي لما يقدمنه من طروحات، ولكن مجريات النقاش كشفت عن ضحالة في التفكير، وإسفاف في التعبير، لم يستثن منه الباحث في علم الاجتماع، الذي مثل بخطابه العلماني الفج نزوعا نحو التطبيع مع الواقع الرديء، فمثل بذلك بؤس علم الاجتماع المغربي عندما يتبنى الإيديولوجية العلمانية، ويولي ظهره ثوابت الأمة، ويعرض عن النهل من مصادرها الصافية، وحمل همومها الحقيقية والأصيلة.
أما رابع النسوة المدعوات، فقد مثلت بمفردها الطرح المنسجم مع هوية الأمة، ولم يشفع لها موقعها الرسمي على رأس وزارة الأسرة والتضامن عند مقدم البرنامج، لتحظى بقسطها العادل من الكلام، إسوة بالنسوة الأخريات، الأمر الذي جعلها تحتج على ما نالها من إجحاف، نالت مثله في حلقات سابقة. والغريب أن المصطلح الذي تردد أكثر من غيره على لسان المدعوين، هو مصطلح المساواة، علما أن المفهوم الذي تم لوكه والتعبير عنه، هو المفهوم الفج الذي يراد له أن يثبت ويسود في الواقع الثقافي وفي الأذهان، بعيدا عن عقيدة الأمة، وعن سياقها التاريخي والحضاري، الذي يقدم المساواة في مفهومها العميق الذي يرتبط بالحياة الكريمة في مقاصدها العليا، وإطارها التكاملي الأصيل، الذي يضبطه الإسلام بمعايير تستعصي على التجاوز والتمييع. وهناك نموذج ثان من المصطلحات، اتخذ أكثر من غيره مطية لإشاعة الفوضى في المجتمع، وجعلها تستحكم في أركانه ومفاصله، إنه مصطلح الحرية الذي تعرض للمسخ من خلال تحميله المفهوم الممعن في الفجاجة والابتذال، بجعله صنوا للتفلت من أي ضابط أو قيد، ومن ثم اتخاذه سندا لأي حماقة أو فجور تتفتق عنه نفوس الفجار والأشرار، ممن لا يفصلهم عن البهائم إلا الشكل الظاهر. إن تجليات خرق الفوضى في مستواه المفهومي والسلوكي، يجدر أن تكون حافزا قويا يستنفر القوى الحية التي توجد على ظهر سفينة المجتمع، لتتصدى بقوة الفكر، وسلاح الحكمة، واستقامة السلوك، لكل من يبغي بالسفينة نسفا وفتكا وإغراقا ، رائدهم قول الله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون} صدق الله العظيم.
د. عبد المجيد بنمسعود