تحدثنا في الحلقة الماضية (المحجة عدد 385) عن الجانب الأول من الشطر الأول للآية الثانية {وإنه لتنزيل رب العالمين..} وبيّنّا مميزات كلمة >تنزيل< من حيث بنيتها ودلالتها، ثم شرعنا في توضيح مكونات بنيتها حيث رأينا أن أصلها الذي اشتقت منه هو فعْل >نزَّل< المزيد بالتضعيف وأن دلالة هذا الفعل مركبة من فعلين لأنه تضمن معنى >أنْزَل< المزيد بالهمزة. وفي هذه الحلقة ننهي الكلام عن الفعل نفسه بمناقشة بنيته ودلالة أصله المجرد، وهو فِعْل >نَزَل< على وزن فعَلَ بفتح الأحرف الثلاثـة كمــا يلي :
3- نَزَل ينْزِل مثل ضَرَب يضْرِب، وجَلَس يجلس، وكَذَبَ يكذِب، وحرَم يحرم، وسرق يسرق، وقرض يقْرِض، في الأفعال الصحيحة، أو رمى يرمي، وباع يبيع، وسال يسيل..الخ في الأفعال المعتلة الوسط أو الأخير. والملاحظ أن الحدث الذي تدل عليه هذه الأفعال فيه هبوط، ونزول من أعلى إلى أسفل حسيا مثل ضرب، ونزل، وجلس، أو معنويا كما يدل عليه باقي الأفعال المذكورة، وعليه يمكن القول بأنّ فعْل >نزَلَ< يدل دلالة معجمية على وقوع الحدث من أعلى إلى أسفل. والملاحظ أيضا أن هذه الأفعال وما يشبهها تتفق في صيغة المضارع الذي يأتي منها جميعا على وزن >يفعِل< بكسر الحرف الثالث بعد حرف المضارعة وعليه يمكن القول بأن هذه الأفعال وما يشبهها تدل على الحدث الذي تدل عليه دلالة معجمية وتصريفية، ومن هنا نستنتج أن فعل >نزل< الذي نحن بصدد مناقشة دلالته في الآية المذكورة أعلاه يدل على معنى النزول دلالة معجمية وتصريفية لأن الحرف الثالث فيه بعْد حرْف المضارعة >ينْزِل< مكسور، والكسرة علامة لكسر النطق بحرف مّا في الكلمة. ولذا تكون دلالة فِعْل >نَزَل> التي هي أصل >نزّل< مركبة الدلالة ضمْنيا لأنها تدل على المعنى الذي تحمله دلالة معجمية وتصريفية والخلاصة أن كلمة >تنْزِيل< التي هي صدر هذا القسم الذي نناقشه من هذه الآية سورة الشعراء 192- 193 ذات دلالات مركبة مما يلي :
أ- فعل نَزَل : الدّال على هذا المعنى معجميّاً وتصريفياً.
ب- فعل نزّل -الذي يحتفظ بالدلالة أعلاه ويزيد عليها اعتماداً على قولهم : الزيادة في المبنى تودي إلى الزيادة في المعنى. وعليه ففعل نزّل يمثل درجة أعلى من نزَلَ في نفس المعنى، وكيف لا وقد ورد هنا بمعنى أنْزَل المزيد بالهمزة كما رأينا أعلاه لأنه يتضمن دلالة البنيتين معاً : فعّل وأفْعَل!
حـ- المصدر >تنزيل< يتضمن دلالة البنيتين قبله >فعَلَ< و>فعَّل< ويزيد عليهما لأنه مصدر يشارك الفعل في دلالته على الحدث والزمن، ويفوقه، لأن دلالته على الزمن مطلقة كما رأينا في الحلقة السابقة (عدد 385).
4- تنزيل : هذه الكلمة التي تتضمن المواصفات اللاتي لخَّصْنَاهَا أعلاه. مضافة إلى اسم مركب هو >رب العالمين< وقبل أن نتحدث عما سيستفيده هذا الاسم المضاف >تنزيل< من المضاف إلىه المركب >ربّ العالمين< نلامس معاني هذا الاسم المركب مفردة >رب< و>العالمين< ومركبة >ربّ العالمين< وفيه نقول وبالله التوفيق :
ب- رب العالمين : هذا نوع من أنواع الاسم العلم المركب تركيب إضافة يقول ابن يعيش بخصوص أنواع الاسم العلم، ووظائفها الدلالية : >والاسم العلم، يكون مفرداً ومركباً… والمراد بالإفراد، أنّه يدل على حقيقة واحدة، قبل النقل وبعده > (ويعني بالنقل هنا أن يستعمل الاسم ليدل على مسمى في مجال، ثم ينقل إلى مسمى آخر في مجال آخر كتسمية رجل بأسد، أو تسمته بصفة من الصفات مثل مالك، فمالك في أصلها صفة ثم سمي بها، أو تسْمية رجل بفعل من الأفعال مثل أحمد ويزيد، فكل من أحمد ويزيد فعل ثم نقل من مجال الفعل لتسمية به إنسان وهكذا..) والمركب من الأعلام هو الذي يدل على حقيقة واحدة (بمعنى أنه لا يدل إلا على شيء واحد) بعد النقل، وقيل النقل كأن يدل على أكثر من ذلك… وهو (أي الاسم العلم المركب) على ثلاثة أضرب نقف عند الضَّرْب الذي يعنينا في هذا السياق، وفيه يقول ابن يعيش : الثالث من المركبات : المضاف وهو ضربان : اسم غير كُنْية نحو : ذي النون، وعبد الله، وامرئ القيس، وكُنْية نحو : أبي زيد وأبي جعْفر..<(1).
والذي ينطبق على الاسم الذي نحن بصدد مناقشة تركيبه >رب العالمين< من بين أوصاف الاسم أعلاه : أنّه اسم مركب تركيب إضافة يدل على حقيقة واحدة هي كون الحق سبحانه مربّياً لكل من يحتاج إلى هذه العناية من العالمين، وكان (أي هذا الاسم) قبل تركيبه يدل على حقيقتين، أولاهما >رب< وثانيتهما >العالمين< ولذا، نقف عند دلالة كل كلمة على حدة قبل تركيبهما، ثم نجمعهما بعد ذلك. رب : أمر هذه المادة (ر+ب+ب) عجيب من حيث ما تدل عليه من المسميات في الوجود، سواء بقيت ثلاثية كما هي أو زيد على هذا الأصل بالهمزة أو التضعيف، وسواء بقيت على شكلها الأصلي بالحركات -كما سنوضحه- أو تغير شكلها بحركة مّا من بين الحركات الثلاثة اللاتي يضبط بها النطق بشكل البنية، وسنقدم أمثلة منها بعد توضيح دلالة الفعل والاسم المقصودين عندنا في هذا السياق كما يلي :
أ- ربَّ من ربَّ يرُب مثل نصر ينصر، وكتب يكتُب وخرج يخرُج، وقال يقول. فالملاحظ أن الحرف الثالث بعد حرف المضارعة في هذه الأفعال ومثيلاتها مضموم، والضمة أثقل الحركات الثلاثة : الفتحة، والكسرة والضمة، وهذا (أي ضم الحرف الثالث بعد حرف المضارعة) يدل على قوة الحدث الذي تمثله هذه الكلمات اللاتي صيغت منها هذه الأفعال المضارعة ومنها فعل >ربَّ يَرُب< الذي نحن بصدد مناقشة دلالته، وفي هذا السياق يقول ابن منظور : >ربَّهُ يرُبُّه ربّاً، ملكه(1)… وربَّ ولده، والصبي يرُبُّه ربّا بمعنى رباه(2)، وفي الحديث : لكَ نعمة ترُبُّها : أي تحفظها(3) وتراعيها وتربيها كما يُربّي الرجل ولده… والسحاب يرُبّ المطرَ، أي يجمعه(4) وينمّيه… والمطر يرُب النّبات والثّرى وينمّىه(5)… وربَّ المعروفَ والصنيعة يرُبها… نمّاها وزادها(6)… وربَبْتُ الأمر أصلحتُته(7) ومتَّنْتُه(8)، وربّيْتُ الدُّهنَ : طيبته(9) وأجدته(10). وقال اللحياني ربَبْت الدّهن : غذوته(11) بالياسمين، وبعض الرياحين…(2). تلك بعض دلالات هذه المادة مجردة وهي : الملكية(1) بكسر الميم + التربية(2) + الحفظ(3) بكسر الحاء أو المحافظة + الجمع(4) والتنمية(5) + الزيادة(6) والإصلاح(7) + التمتين(8) + التطبيب(9) + الإجادة(10) + والتغذية(11).
وعند تأملنا للفواعل (جمع فاعل) والمفعُولات الواردة في الجمل المرقمة من 1 الخ… ممّا استخرجناه من لسان العرب لابن منظور، فإننا سنلاحظ أن المعاني التي تحملها تمثل ركائز نظام الحياة في الكون فعلى سبيل المثال : >رباه بمعنى ملكه< تعني حيازة كل من يتميز بصفة الملكية بكسر الميم لما يستطيع أن يملكه مدة حياته. و>ربى ولده< تعني مسؤولية كل من يلد بصفة عامة (وبمعنى الأمر هنا الغريزة بالنسبة للكائنات الحية غير الإنسان) والإنسان بصفة خاصة. وحفظ النعمة أو المحافظة عليها تعني مسؤولية كل عاقل من بني آدم يؤمن بالله ويعرف إنعامه عليه بنعمه ولا ينكرها. وكل مجتمع يغيب فيه أهل الخير الذين يربون الصنائع ويصلحون الأمور، يعمه الفساد، وتسود فيه الفاقة.
وأخيراً إذا توقف السحاب عن تربية المطر، وكفّ المطر عن تربية النبات. فتلك نهاية الحياة. كل هذه المعاني وغيرها مما يماثلها أو يفوقها نفعا في الوجود مما لا يتسع له المقام كامن وراء كلمة >ربّ< وهي كلمة قوية ومتميزة ولا شك. بناء على ما ذكر من المعاني المشتقة منها من جهة، ولأنها تتألف من حرفين قويين متميِّزين من جهة ثانية. يقول ابن جنى >الراء حرف مجهور مُكرّر يكون أصْلا لا بدلاً، ولا زائداً، فإذا كان أصلا وقع فاءً (يمعني بالفاء الحرف الأول من الكلمة) وعيناً (يعني الحرف الثاني من الكلمة) ولاما:ً (يعني الحرف الأخير من الكلمة وكل هذا في الكلمة الثلاثية وهي الأصل) ويمثل ابن جني لمواقع حرف الراء المذكورة بما يلي : >فالفاء نحو رُشْد ورَشَد، والعين نحو جُرْح، وجَرَح، واللام نحو بَدْرٍ وبَدَر<(3). ويقول عن الباء : >والباء حرف مجهور : يكون فاء وعيْناً ولاماً، فالفاء نحو بئر، وبعث، والعين صبْر وشبع، واللام نحو ضرْب وقرب، ولا تستعمل زائدة<(4). تلك هي بعض دلالات كلمة >ربّ< وتلك بعض مواصفات الحروف التي تتألف منها، والكلمة في حدّ ذاتها هي أصل الاسم >ربْ< الذي سنتحدث عن معناه لاحقا إن شاء الله تعالى {وإنه لتنزيل رب العالمين} -يتبع.
د. الـحـسـيـن گـنـوان
—
1- ابن يعيس 28/1- 29 بتصرف.
2- ل ع 400/1- 405.
3- سر صناعة الإعراب لابن جني 191/1.
4- سر صناعة الإعراب لابن جني 119/1.