ناقشنا في الحلقة الماضية (المحجة عدد 386) دلالة فعل نَزَل المجرد الذي هو أصل نزّل المزيد بالتّضعيف الوارد مصدره ((تنزيل)) في قوله تعالى : {وإنّه لتنزيل ربّ العالمين}. ولخصنا دلالتي الفعلين المذكورين، وعلاقتهما بصياغة المصدر ((تنزيل))، وقبل أن نناقش دلالة هذا المصدر ((تنزيل)) باعتباره مضافاً إلى مركب إضافي هو : ((رب العالمين))، وضّحنا دلالة المركب الإضافي بصفة عامة، وشرعنا في توضيح دلالة هذا المركب الإضافي بصفة خاصة ((رب العالمين)) حيث شرحنا بعض دلالات الجزء الأول منه، وهو كلمة ((رب)) واتضح أن هذه الكلمة قوية بما اشتق منها من المعاني، وبدلالة حروفها اللاتي تتألف منها. وفي هذه الحلقة نوضح بإذن الله دلالة الجزء الثاني من هذا المركب الإضافي وهو كلمة ((العالمين)) وما يتلوه من بقية الآية وهو : {نزل به الروح الامين على قلبك..}الآية.
ب- العالمين : أصل هذه الكلمة هو (ع ل م) وهذه المادة متنوعة الوظائف الدلالية لأن عيْنَها أي الحرف الوسط منها يتحمل الحركات الثلاثة الفتحة (عَلَم)) والكسرة (عَلِم) والضمة (علُم)، ولكل شكل دلالته الخاصة، نمثل لكل واحد منها بما يوضحه دون تفصيل من ذلك ما يلي :
1- عَلِم مثل فرِح بكسر اللام (أي عين الكلمة) يقول ابن منظور ((وعَلِم بالشيء : شعَرَ، يقال : ما علمت بخبر قدومه أي ما شعَرت… وعَلِم الأمْرَ وتعَلّمَه : أتْقَنه… وعلِمْتُ يتعدى إلى مفعولين، ولذلك أجازوا علِمْتُني..))(ل ع 418/12).
2- عَلُِم : ((والعِلْم نقيض الجهل، عَلِم عِلْماً وعلُم (بضم اللام مثل كرُم) هو نفسه…))(ل ع 417/12).
3- عَلَم : بفتح اللام مثل فتَحَ يقول : ((وعَلَمَهُ يعْلَمُه ويَعْلِمُه عَلْماً : وسَمَهُ… ويقال عَلَمْت عِمَّتي أعْلِمُها عَلْماً وذلك إذا لُثْتها(1) على رأسِك بعلامة تعرف بها عِمَّتُك. وقدَحٌ مُعْلَم : فيه علامة، ومنه قول عنترة : رَكَدَ الهواجِرُ بالمشوف المُعْلَم… وفي التنزيل في صفة عيسى صلوات الله على نبينا وعليه : {وإنّه لَعِلْم للساعة} وهي قراء أكثر القراء، وقرأ بعْضهم : وإنه لعَلَمٌ للسّاعة؛ المعنى أن ظهور عيسى ونزوله إلى الأرض علامة تدل على اقتراب الساعة، ويقال لما يبنى في جوادِّ الطريق من المنازل يستدل بها على الطريق أعْلام واحدها عَلَم… وقوله تعالى : {وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام} قالوا : الأعلام الجبال، والعَلَم العلامة… والمعْلَمُ : الأثر يستدل به على الطريق وجمعه المعالم. والعالمون : أصناف الخلْق، والعَالَمُ : الخلْق كلُّه، وقيل : هو ما احتواهُ بطن الفلك قال العجاج : فخِنْدِفٌ(2) هامةَ هذا العَالم… ولا واحد للعالم من لفظه (بمعنى أنَّهُ ليس له مفرد من لفظه) لأن عالَماً جمع أشياء مختلفة، فإن جُعِل عالمٌ اسماً لواحد منها صار جمعاً لأشياء متفقة، والجمع عالمون، ولا يجمع شيء على فاعَل بالواو والنون إلا هذا! وقيل : جمع العالَم الخلْق العوالم، وفي التنزيل {الحمد لله ربّ العالمين} قال ابن عباس : ربِّ الجنّ والإنس. وقال قتادة : ربّ الخَلْق كلهم… وقال الزجاج : معنى العالمين : كل ما خلق الله، كما قال : وهو رب كل شيء، وهو جمع عالم…))(3).
هكذا تتدرج دلالات عَلَم بفتح اللام وتتفرع بين العلامة والوسم، وكل ما يستدل به على شيء معين لتدل بصيغة الجمع اللفظي (العالمون) على أصناف الخلق، أو المعنوي (العالم) على الخلق كله، وكل ما احتواه بطن الفلك، وهذا ما يتناسب مع دلالة الآية المركبة تركيبا إضافيا {رب العالمين} حيث تتَنَاسب دلالة المضاف إليه من حيث سعة مجاله وتعدد أفراده ليشمل ((الخلق كلهم)). ودلالات المضاف ((رب)) كما بسطنا القول فيها في الحلقة الماضية (ع 386). إنه رب العالمين الذي يشمل بعنايته كل مَن وما يحتاج إلى عناية التربية التي تليق بجنسه، كل هذه المعاني منضوية تحت كلمة عَلَم بفتح اللام. أمّا علُم بضم اللام فهي مطابقة لعَلِم بكسر اللام من حيث مجال دلالتها، لكن التعبير بها أقوى وأبلغ من دلالة علِم بكسر اللام، يقول ابن منظور : ((والعلم نقيض الجهل، علِم (بكسر اللام) عِلْماً، وعلُم (بضم اللام) هو نفسه… قال ابن جني : لمّا كان العلم قد يكون الوصف به بعد المزاولة له وطول الملابسة صار كأنه غريزة، ولم يكن على أول دخوله فيه، ولو كان كذلك لكان متعلِّما لا عالما فلما خرج بالغريزة إلى باب فَعُل صار عالمٌ في المعنى كعليم..))(4).
وبعد ما عرفنا في الحلقة الماضية (المحجة عدد 386) مقدار قوة دلالة المضاف ((المفرد)) ((تنزيل)) وعرفنا دلالة وقوة طرفي المضاف إليه المركب ((رب)) و((العالمين)) فلنتأمل أثر كل ذلك في قوله تعالى {وإنه لتنزيل ربّ العالمين} وبهذا ننهي الكلام عن القسم الأول من هذه الآية -ويأتي الكلام عن القسم الثاني- إذ سبق أن قسمنا هذه الآية شكلا إلى ثلاثة أقسام في العدد 386 وهو : {وإنه لتنزيل رب العالمين} ثم {نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين} ثم {بلسان عربي مبين}. هنا يتكرر الحدث بفعل ((نزل)) المسند إلى فاعل خاص هو ((الروح الامين)) متعديا إلى المفعول الضمير الذي يعود على القرآن بحرف الجر ((الباء)) التي تفيد من جملة ما تفيده معنى الإلْصاق : ((وهو اتصال شيء بشيء سواء كانا معنيين، أو كانا معنى وذات..))(5)، وهذا ما يفيد أن المسند إليه وهو ((الروح الامين)) الذي هو جبريل عليه السلام كان محافظا على أمانة الله ((القرآن الكريم)) التي حُمِّلها حتى وضعها في مكانها وهو قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما يفيدُه جزء الآية {على قلبك}.
ومعاني السمو واللطف متضافرة في هذه الآية لتفيد أن الحدث غير عاد، فالمسند إليه في الجملة غير عاد، وهو الروح الأمين، والأمانة المحمولة لأجل إنزالها هي معاني القرآن الكريم بما تتضمنه من أحكام وتشريعات، والمكان المحدد لوضعها هو قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجهة التي صدرت عنها هذه الأمانة جهة عليا كما يفيد ذلك التعبير عنه بالمصدر ((تنزيل)) والفعل ((نزل به)) من جهة، وحرف ((على)) الذي يفيد الاستعلاء، من جهة ثانية {نزل به الروح الامين على قلبك}. والغاية التي من أجلها أنزلت هذه الرسالة بكل مواصفات القوة والدقة المشار إليها ضمن معاني الكلمات والتراكيب السابقة بخصوص هذه الآية التي نرجو أن تراجع وتستحضر لفهم هذه الآية بمعاني مُفْرداتها : إنه -لتنزيل -رب – العالمين -الروح الامين -قلبك…الخ وتراكيبها : {إنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الامين على قلبك} هي {لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين} فهذا الجزء من الآية يتضمن أمرين اثنين :
أولهما : الغاية {لتكون من المنذرين}
وثانيهما : الوسيلة وهي {بلسان عربي مبين} ويبدو أن اللام في هذه الآية ((لتكون..)) تفيد الصيرورة(6) وهي التي تسمى لام العاقبة، ولام المآل، وقد مثل لها صاحب المغني بقوله تعالى : {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا}(القصص : 8) وعليه يكون المعنى في قوله تعالى {لتكون من المنذرين} : لتصير من المنذرين. ويقوى هذا الفهم ويعضده دلالة مِنْ التي نرى أنها تفيد التبعيض هنا، فالرسول صلى الله عليه وسلم واحد من بين رسل الله الذين كلفهم بمهمة الإنذار، وقد مثل صاحب المغني(7) لهذا المعنى مِن حَرْف مِنْ بقوله تعالى : {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله}(البقرة : 262) والشاهد عندنا هنا هو ((منهم)) والإنذار الذي هو مهمة الرسول هنا هو : ((إبلاغ المخوف منه، والتهديد والتخويف))(8) وفيما يقوي هذا المعنى يقول ابن منظور : ((والإنذار : الإبلاغ، ولا يكون إلا في التخويف… ومنه قوله تعالى : {فكيف كان عذابي ونذر} أي إنذاري))(9). وهذا الإنذار يكون بلسان عربي مبين. وبقطع النظر عن تفَاضل اللغات الإنسانية بخصوصياتها في هذا المجال، أي مجال التبليغ بشكل الإنذار، فإن هذا اللسان أي العربي كتب له أن يكون الأداة الصالحة لاستمرار الإنكار به باعتباره آخر لسان خاطب به الحق سبحانه عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
د. الـحـسـيـن گـنـوان
—–
1- ولاث الشيء لوْثاً أداره مرتين كما تدار العمامة والإيزار، ولاَث العمامة على رأسه يلوتها، أي عصبها، وفي الحديث : فحللت من عمامتي لَوثاً أو لوثتين، أي لفة أو لفتين)) ل ع 186/2- 187.
2- خدف : الخاء والدال و الفاء أصل واحد، قال ابن دريد : فالخدف : السرعة في المشي، ومنه اشتقاق خِنْدف.. مقايس اللغة لابن فارس 162/2 مادة خدف. ويقول ابن دريد : ((والخدف : مشي في سرعة وتقارب خطى، ومنه اشتقاق خِنْدف، النون زائدة، وخِنْدف أمّ قبائل من العرب : كنانة وتميم، وهذيل))الجمهرة 201/2 ع2.
3- لسان العرب لابن منظور 419/12- 421 بتصرف.
4- ل ع 417/12 ع1.
5- حاشية الدسوقي 108/1.
6- مغني اللبيب لابن هشام ص 282.
7-المرجع نفسه ص 420.
8- الكليات لابن البقاء الكفوي ص 201.
9- لسان العرب لابن منظور 202/5.