شرح الأربعين الأدبية(7) – في بغض الله تعالى للبليغ المتخلل بلسانه تخلل البقرة


في بغض الله تعالى للبليغ المتخلل بلسانه تخلل البقرة
روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة))(1).
مدار الحديث على ثلاثة أمور: بغض، وبلاغة، وتخلل باللسان. أما البغض فهو ضد الحب، فالحديث يفيد أن الله تعالى لا يحب الرجال البلغاء الذين يتخللون بألسنتهم تخلل البقرة بلسانها، فهؤلاء بعيدون عن الله تعالى، وعلة بعدهم عنه تخللهم بألسنتهم. وأما البلاغة فهي هنا بين ذم ومدح، فالمذموم منها ما ارتبط بتخلل الألسنة، والممدوح منها ما سلم منه؛ لأن الحديث النبوي يتحدث عن البليغ من الرجال الذي صفته أنه يتخلل بلسانه، وأما البليغ منهم الذي ليست تلك صفته فلا يبغضه الله تعالى، فمنطوق الحديث ذم لأولئك، ومفهومه مدح لهؤلاء. وأما التخلل باللسان فهو مركز الحديث وبؤرته: وعند ابن الأثير أن ((الذي يتخلل بلسانه)) ((هو الذي يتشدق في الكلام، ويفخم به لسانه، ويلفُّه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفّا))(2)، فالتخلل باللسان له علاقة بالتشدق ولف الكلام. وقد روى الطبراني في الكبير عن واثلة بن الأسقَع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم فـ+أقبل رجل عليه شارة حسنة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بكلام إلا كلّفته نفسه أن يأتي بكلام يعلو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف قال: ((إن الله لا يحب هذا وصوته، يلوون ألسنتهم للناس ليّ البقرة لسانها بالمرعى، كذلك يلوي الله ألسنتهم ووجوههم في النار))(3). والحديث قريب من حديث الباب وقد يكون هو نفسه، وأنه زاد عليه سبب الورود، وعلى كل حال فهو يفيد أن المقصود بِليّ الألسنة أمورا: أولها التقدم بين يدي الله ورسوله، وثانيها اعتراض الحق، وثالثها حب الظهور؛ لأنه يلوي لسانه للناس. ورابعها التكلف، وخامسها تحريك اللسان لتحقيق المراد، وسادسها جعل الكلام هدفا، وسابعها الرغبة في جعل كلامه يعلو كلام غيره. وثامنها أن لَيّ هذا للسانه شبيه بليِّ البقرة لسانها في المرعى، فهو يلوك الكلام ويمضغه بطريقة تجعله ينتهي به حيث ابتدأ، ثم يبدأ حيث انتهى، وهكذا. فهذه بعض فوائد الحديث فيما يخص لي الألسنة، ونضيف إليها فائدتين أخريين: الأولى هي أن الله تعالى لا يحب هذا الرجل، ولا يحب صوته أيضا، وقد استعمل هنا نفي الحب، واستعمل في حديث -أو رواية- الباب لفظ البغض. والأخرى هي أن مآل هذا وأمثاله النار. إن حديث الباب يعيب أمر التخلل بالألسنة، ويجعل ذلك من أسباب بغض الله تعالى للمتخلل بها، ولكنه يعيب قبل ذلك الرجل البليغ الذي لم تنهه بلاغته التي برز فيها عن أن يسلك ببلاغته هذا المسلك، وذلك سر تصدر لفظ البليغ الحديث، وحُق له أن يتصدر، ولم يتقدمه إلا ما دل على بغض الله له. والمتخللون بألسنتهم ثلاث طبقات: طبقة وقفت عند حد التخلل بالألسنة، فهذه حسْبُها قبحا أنها اتخذت الأبقار قدوة. وطبقة أضافت إلى منهجها المتخلل بالألسنة دعوة إلى الاقتداء بها، وحسب هذه الطبقة شرا أنها تُفقد الإنسان معناه، وتقطع صلته بمولاه، لأن من أبجديات هذه الصلة أن يكون العبد مستعدا ليوم لقاء الله، ولا يكون استعدادٌ مع أعمال فارغة لا نفع لها في الدنيا والآخرة أقل ما ينتج عنها غفلة عن الله.
وطبقة انتقلت من التشبه بالأبقار والترويج لذلك إلى معاداة منهج البلغاء الذين نزهوا أنفسهم عن مشابهة الحيوانات، وهذه الطبقة لا تروج فقط تَخلُّلَ الألسنة مذهبا في البلاغة والأدب؛ بل تحارب غيره، وتسفه أهله؛ لأنها تريد أن يكون الناس تبعا لها، ولا يمكن أن يكونوا كذلك إلا إذا كانوا بقرا، أو شبيهين بالبقر، وإلا إذا كانوا يتكلمون بلغو، ويجترون ما تكلموه، هذه الطبقة هي طليعة المعركة ضد الأمة وهويتها، سلفها غير الصالح وقدوتها الطالح ذلك الذي سولت له نفسه أن لا يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلام إلا تكلم بكلام يريد أن يعلو به كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنى له؟! ومع أن مذهب المتشبهين بالأبقار منتشر في الأرض وممكن له فيها، وله من الوسائل ما يضمن به أن يصل إلى كل مكان وبأقل جهد، إلا أنه لا يملك الاستقرار والاستمرار؛ لأن الله تعالى يبغضه، ولأن وجوده مسألة وقت، فمجرد مجيء الحق بحَقٍّ كاف لجعله يزهق، وشتان ما بين مَن يُبسَط له القَبول في الأرض؛ لأن الله تعالى نادى في ملائكته أني أحِب فلانا فأحِبوه، وبين مَن أخبَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يبغضه، شتان ما بين من ارتضى منهج الله، ومن ارتضى منهج الأبقار.
د. الحسين زروق
——-
1- صحيح سنن الترمذي، 3/138، حديث رقم 2853، كتاب الأدب، باب ما جاء في الفصاحة والبيان. قال أبو عيسى الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه)). وقد صححه الألباني. 2- النهاية في غريب الحديث والأثر، 2/73. 3- المعجم الكبير، الجزء 22، حديث رقم 170. وقد علق عليه الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/264 بقوله: ((رواه الطبراني بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح)).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>