عندما امتدت رياح الثورة اللواقح إلى أرض الشام، لم يكن يبدو لأول وهلة أن سقف الاحتجاج مؤهل لأن يتجاوز التغني بنشيد الحرية الذي حمل في تضاعيفه صرخات شعب مقهور، ظل لآماد متطاولة مكتوم الأنفاس إلى حد الجمود والاختناق، ورغم تحرك آلة القمع الرهيب لنظام بلغ الغاية في البطش والتعامل الهمجي مع الشعب، فإن الجماهير ظلت تحافظ على السقف المذكور، تحت تأثير رصيد بغيض من الرهبة والخوف، ظل يكبل الإنسان السوري، على مر الشهور والأعوام، كشبح مرعب يطارده في اليقظة والمنام، وهكذا ظلت انتفاضة أهل الشام لشهور عديدة -هي في حكم الأعوام والقرون- تكتفي في الرد على بطش النظام النصيري الظالم، بمزيد من الصراخ، وإطلاق الحناجر بأناشيد الثورة المشحونة بعشق الحرية والانعتاق، ظنا منها أن ذلك كفيل بشل آلة القمع التي راحت -خلافا لذلك الظن- تحصد الأرواح، وتزج بالأحرار في أقبية المعتقلات الرهيبة، وغياهب السجون، مصمة آذانها عن طوفان أصوات الشعب الهادرة المطالبة بالحرية والعدالة والإنصاف، وضاربة عرض الحائط بأصوات المنظمات والجهات المنصفة التي صبت في نفس الاتجاه، بمطالبتها عتاة النظام بتغليب جانب الرشد، والإنصات لصوت الشعب الذي لا يطالب بغير الحرية، وإعادة الاعتبار لكرامته المهدورة، وإنسانيته الممرغة في أوحال المهانة والإذلال. وكان من شأن مشهد مأساوي، يمثل أحد طرفيه آلة جيش بغيض يبطش بلا هوادة، وشعب يتلقى السياط، ويتلقى رصاص الغدر بصدور عارية على أمل أن يثمر ذلك تغييرا في المعادلة، بانفتاح كوة من الأمل في جدار النظام المتغطرس الجبار، قد تؤول إلى توافق يحقن الدماء، ويختار الجنوح إلى السلم والإنصاف، قلت: كان من شأن ذلك المشهد أن يولد لدى كثير من مواكبيه في العالم العربي، شعورا عارما بالإحباط، بل وحتى الاستغراب والاشمئزاز، إذ هل يصح في منطق الحياة، ومنطق التدافع بين الحق والباطل، أن يكتفى في مواجهة عصابة إجرامية مدججة بالحقد الأسود والهمجية الخرقاء، بباقة من الأناشيد والشعارات المتضمنة لرغبة عارمة في الحرية والانعتاق؟ غير أن تطورات الصراع المرير، ما كان لها أن تزكي تلك الخيبة التي خالطت النفوس المحبة للعدل، الكارهة للبغي والظلم، فما كان إلا أن ينبثق من قلب ذلك الصراع الذي غلب عليه الاختلال واللامعنى، جيش حر يثأر للشعب المقهور، ويفعل ما يستطيع لحماية نساء وشيوخ وولدان لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وما كان للأناشيد الممجدة للحرية إلا أن تمتزج حتى النخاع بلعلعة الرصاص الذي يحمي الضمار ويحرر الديار، وبدأ النظام المنخور يتآكل من داخله، بحركة دؤوبة لانشقاق الشرفاء عنه، ثم انحيازهم إلى صف الشعب، يؤازرونه في محنته ويواجهون معه فصول مأساة رهيبة يصنعها نظام أخرق جبان، ينطبق عليه قول القائل: “أسد علي وفي الحروب نعامة”، فكان من شأن هذه الولادة العسيرة للجيش السوري الحر، وما تلاها من تنام واستواء عود، أن تغير من المعادلة على الأرض، وتربك حساب النظام الجزار الذي ارتوى حتى الثمالة من دماء الشعب المغدور التي سقت كل بقعة من أرض سوريا المجيدة، التي أبى سليل الغدر طاغية الشام إلا أن يحولها إلى أنقاض وركام، وهي التي كانت درة تحكي أمجاد حضارة فاخرة، وفصولا من كتاب أمة عبقرية سطرته بجواهر الحكمة، ووشحته بمخايل الرجولة، ورصعته بقلاع الفتح المنيفة والمبهرة. وبدلا من أن يتوب النظام الجائر إلى رشده، زاد إمعانا في الغي، وراح يجهز على ما تبقى من معالم الحياة والعمران التي شادتها سواعد شعب مكلوم، مستخدما كل ما في جعبته من أسلحة الدمار، التي راكمها تحت شعار التصدي والصمود، تحت إشراف أسياده من عتاة الشيوعيين الروس، الذين كان لهم ضلع كبير في أكل أرزاق شعب سوريا، ثم الإجهاز عليه مرتين: مرة بتسليح النظام المستبد السفاح، ومرة أخرى باستخدام الفيتو لمنع مرور قرار بإدانته ومعاقبته.
لقد لاح منذ المراحل الأولى لمحنة الشعب السوري الجريح، أنه ضحية مؤامرة عالمية محبوكة عنوانها الكبير، هو ضمان أن تنعم الكيان الصهيوني بالهدوء والأمان، بالحفاظ على درعها المتين الذي ليس هو إلا النظام السوري المستبد، الذي لم يحسن إلا في استهلاك الشعارات الزائفة والادعاءات الكاذبة، وهو الذي باع أرض الجولان، ولم يطلق رصاصة واحدة في سبيل افتكاكها من براثن اليهود. وفي حالة تعذر تحقيق هذا المطلب الاستراتيجي بالنسبة لأمن الصهاينة، فليكن البديل المعوض هو تدمير سوريا على رؤوس أهلها، وتحطيم قدراتها، حتى وإن كان لابد أن يؤول الحكم للشعب، فليكن ذلك على وطن مخرب تنعدم فيه مقومات الحياة، ويشغل فيه الجميع شعبا وحكاما بإعادة الإعمار الذي تسطو على صفقاته الشركات العابرة للقارات، والتي يؤول نصيب كبير منها لعتاة أرباب الأموال والأعمال من اليهود، ولقد بدا جليا أن هذا هو الخيار المقدور عليه في ظل إصرار الشعب على الثأر لكرامته واستعادة زمام نفسه، وهذا ما يفسر مضي النظام الخاسئ في مسلسل التدمير وممارسة سياسة الأرض المحروقة، رغم بوادر هزيمته، ونهايته الوشيكة التي تلوح في الأفق. إن المرء العاقل لا يسعه إلا أن يشعر بالقرف والغثيان إزاء واقع عربي لا يزال مصابا بالعجز والكساح إزاء ما يحيق بشعوبه من مآس ومحن، فهو لا طاقة له على إطفاء أي نار تشتعل ولو كانت في متناول يده، ولا قبل له بفك عقدة يعقدها الشياطين وينفث فيها سحرة الإنس وأبالسته، بل إنه لغبائه المكتسب قد يزيد هذه سوادا وتعقيدا، ويزيد تلك تأججا واشتعالا، وما ذلك إلا لفقدانه للميزان، بل لإعراضه عن الأخذ بالميزان الذي أنزله الله عز وجل بالقسط، وتطبيقه في شؤون السلم والحرب. ما قيمة جامعة لا تجمع، وثروة لا تنفع، وعيون حكام لا تدمع، بل ما قيمة بترول لا يفرض الصقيع على شرايين أعداء الأمة المسلمة إذا دعت الحاجة إلى ذلك كما فعل الملك فيصل رحمه الله ذات يوم من أيام العز؟ وما قيمة سياسات خرقاء يسالم أزلامها من يسعون إلى الإجهاز على شعب بأكمله، بل ويدخلون معهم في معاملات تجارية تقوي شوكته، فهل يقبل بعد الذي فعلته روسيا والصين في حق شعب سوريا بدعم جلاده وحمايته بالسلاح الفتاك والفيتو البغيض، أن تبقي الأنظمة العربية على حبال الود قائمة بينه وبينها؟ إنه الخذلان الشنيع إذن لشعب يعد مفخرة لأهل الإسلام، وإنه التنكر للأخوة في الدم والدين، وإنه الإعراض السافر والتام عن مبادئ الإسلام الداعية إلى التآزر والنصرة والنجدة، وتداعي أعضاء الجسد الواحد عند المصائب والملمات، كما صور ذلك النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
وإن المرء العاقل لا يملك إلا أن تجتاح كيانه موجة من الغضب العارم وهو ينظر إلى العالم، وإلى مصير الشعوب المستضعفة، وكأنه فريسة مستسلمة بين فكي نظام عولمي قائم على الميز العنصري، وعلى سلوك التحكم والبغي الذي لا يقبل معارضة ولو على سبيل الهمس، بل ولو على سبيل التمني، من قبل من هم في حكم العبيد الخاضعين. لا خير في ربيع عربي أو إسلامي لا يجعل نصب عينيه -بعد الانتهاء من عملية التطهير وشطب الأصنام التي أضللن كثيرا من الناس في عالم العرب- إعادة بناء النظام العالمي على أساس مبادئ الحق والخير والإنصاف التي لا تخرج إلا من مشكاة الإسلام. إننا كما نوقن بانبلاج الفجر بعد الليل البهيم، نوقن بانتصار جيش سوريا الحر المقدام، رغم الجراح الغائرة والبلاء الكبير، الذي تجرعه شعب سوريا المحتسب الصابر لما يناهز العام والنصف من الزمان.
د. عبد المجيد بنمسعود