خصومة يائسة فاشلة بين يدي رب العالـمين


قال الله جلت حكمته : {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد. وقال قرينه هذا ما لدي عتيد.ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد. قال قرينه ربّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد. قال لا تختصموا لديّ وقد قدّمت إليكم بالوعيد. ما يُبدّل القول لديّ وما أنا بظلاّم للعبيد. يوم نقول لجنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد }(22- 30) ثم قال تعالى يخاطب الإنسان الكافر : {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} بمعنى لقد كنتَ أيها الإنسان الجاحد محجوبا بكفرك عن معرفة حقيقة هذا اليوم فها أنت ذا اليوم تحياه بنفسك، وتعيش تفاصيله بذاتك لحظة بلحظة.

وتخصيص الخطاب في هذه الآية بأنه موجَّه لنموذج الإنسان الكافر -كما قاله غير واحد من المفسرين- هو أوفق للسياق المؤسس للسورة، واستمرار في الرد على الكفرة المنكرين للبعث، الذين : {عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد}.. فإلى هذا الصنف البشري توجه الخطاب بقوله تعالى : {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} والآية دالة على أن الإنسان بمجرد ما تأخذه سكرة الموت يكون قد غاب وعيه عن الدنيا، وفتح ناظريه على الآخرة ورأى الحق كما هو فلا يبقى كافر عندئذ إلا آمن، ولكن بعد فوات الأوان فقد تقرر في أصول الدين أنه لا يُقْبَل إيمان بعد انكشاف الحجاب.. وذلك معنى الابتلاء. ويجوز أن يكون الخطاب هنا موجها إلى جنس الإنسان بإطلاق -كما رجحه الطبري وابن كثير- فتكون الغفلة المذكورة هنا ليست بمعنى غفلة الكفر والجحود، بل هي بمعنى حجب حقائق الغيب عن الإنسان، مما يصدق على المؤمن والكافر على السواء. فغاية علم المؤمن بحقائق الآخرة أنه مصَدِّقٌ بها، عامل على ميزانها. وهو لا يعرف من أهوالها، ولا من نعيمها وعذابها، إلا ما وقع في قلبه من تصورات لأخبار الرسل والأنبياء. لكن صورة الحقيقة كما هي محجوبة عنه -لحكمة الابتلاء- بحُجُب الحياة الدنيا ذلك هو الغطاء الذي يغطي بصر الإنسان كل إنسان، فيحجبه عن مشاهدة عالم الغيب، ويعاين الحقائق الإيمانية كما هي، لأن الحياة الآخرة بالنسبة إلى الحياة الدنيا كاليقظة بعد النوم الثقيل، ولذلك قال تعالى : {فبصرك اليوم حديد} من الحِدة، وهي هنا قوة الإبصار ودقته، ورؤية حقائق الآخرة، وطبيعة الوجود البشري على ما هي عليه.

ذلك أنه إذا مات ابن آدم ذاق معنى الموت حقا وانتقل المؤمن من علم اليقين إلى عين اليقين وشهد حياة البرزخ حقا، ولحظة النفخ في الصور، وانطلاقة السير الرهيب إلى المحشر المهيب.. ثم عاين ما بعد ذلك من حقائق ومشاهد، إلى أن تستقر كل نفس فيما قضى الرحمن لها به من الجنة أو النار والعياذ بالله. ثم قال جل جلاله : {وقال قرينه هذا ما لدي عتيد} وهي آية تختصر -في كلمات- كل تفاصيل الحساب والميزان والفصل بين العباد والقرين : هو الرفيق المصاحب بإطلاق. والمقصود به هنا : الملَكُ الذي يشهد بما ثبت لديه من عمل الإنسان. وهذه الآية وما بعدها ترجح مذهب القائلين بأن المخاطَب الموصوف من قَبْل بالغفلة عن الآخرة، إنما هو الإنسان الكافر فعلا(1). وقوله : {هذا ما لدي عتيد} أي : هذا كل ما عندي من ديوان عمل هذا الإنسان، مما وثقه الملَكانِ في حياته. ها هو ذا لديَّ مُعَد محفوظ حاضر، ومُهيَّأ بإحصاء دقيق، بلا زيادة ولا نقصان. حتى إذا أدى الملَكُ الشاهد شهادته، وتَلا ما في صحيفته، حكم الرحمن بين العباد.. فقال جل جلاله : {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد} والخطاب بالتثنية في “أَلْقيَا” هو للمَلَكَيْن : السائق والشهيد، أو الكاتبين، إذ يأمرهما رب العزة بإلقاء الكافر في الجحيم، بما استحق من العذاب، بسبب ضلوعه في الإجرام بكل أصنافه فأنت ترى إدانة القرآن له، كيف تتابعت فيها صيغ المبالغة، وأوصاف الشر المكين فهو “كَفَّار” راسخ في كفره، “عنيد” متعنت في جداله، وهو “مناع للخير” بما يمنع من وصول الصدقات إلى أهلها، وبما يمنع من أعمال الخير جملة. وهو “مُعتَدٍ” ظالم للمؤمنين المستضعفين، وهو “مريب” شاكٌّ مُشَكِّكٌ، ينشر الشك في كل ما حوله، داعية إلى الزيغ والضلال. وكل من رآه يرتاب في أمره، بسبب ما يعيشه من حياة الشك والريب في دينه ومعتقده.. إنها جرائم بعضها فوق بعض.

وهذه العبارات كلها، بدءا من صيغة المبالغة “كَفَّار”، مع ما لحقها من صفات الشر، كل ذلك دال على أن المقصود هنا هم رؤوس الكفر، وقيادات الضلال فهذا النموذج الشيطاني الخبيث ليس مجرد كافر شهواني تابع، بل هو كافر راسخ في كفره، مجاهر به ومعتز يجادل عنه وينافح ويقاتل تماما كما ترى صناديد الملاحدة اليوم يُنظِّرون للكفر والزندقة، ويدعون إليهما بقوة وجلد، وبعناد شديد….! ولذلك فهو برؤيته الإلحادية يقف في طريق الخير -إن كان صاحب سلطان أو ذا قوة حزبية- ويمنع دعوة الخير! ويعتدي على رجالها، وينشر الأراجيف حولها ويبث التشكيكات في نوايا أصحابها! ثم يرفع راية الوثنية المادية، سواء تجلت في عبادة حجر، أو عبادة رمز بشري، أو صنم فكري!! ولا يزال صناع الضلال يبدلون أسماء أصنامهم كلما بهت مصطلح منها، أو مات بريقه الإيديولوجي والسياسي! ومصانع الأسماء الوثنية لا تمل من التصنيع والتصدير. ومهما تغيرت الألفاظ فالصنم واحد! إنه الشهوة والثروة، والسيطرة على المال والاقتصاد! كل ذلك وما في معناه قد سجّله الملكان في صحيفة هذا الكافر العنيد! فاستحق ذلك الحُكْم الإلهي العادل، المناسب لجبروته وطغيانه : {فألقياه في العذاب الشديد}. ويصف القرآن مشهداً من مشاهد المخاصمة بين يدي الرحمن يوم القيامة… إنها خصومة بين الكفّار العنيد وقرينه الشيطاني، كل منهما يلقي اللائمة على الآخر؛ وكأن هذا الكفّار يحاول اتقاء العذاب؛ بإلصاق الجريمة بشيطانه الذي تسبب له فيها، وزينها له بوسواسه! لكنها خصومة يائسة فاشلة، يقطعها الجبار بقوة معلناً سبحانه أن قضاءه نافذ لا يرده شيء! فذلك قوله تعالى : {قال قرينه ربّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد. قال لا تختصموا لديّ وقد قدّمت إليكم بالوعيد. ما يُبدّل القول لديّ وما أنا بظلاّم للعبيد} وقول القرين الشيطاني هنا : {ربّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد}، هو رد على احتجاج سابق من الكافر، لكنه غير مذكور، وهو مفهوم من سياق هذا الرد، وقد ورد التصريح بنحوه في قوله تعالى من جواب الشيطان في قوله تعالى من سورة إبراهيم : {وقال الشيْطان لما قضي الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان الا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخِكم وما أنتم بمصرخي إنّى كفرتُ بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب اليم}(ابراهيم : 22).

تلك خصومة الكافر مع الشيطان… خصومة يائسة قاتلة! يتبرؤ فيها القرين من الإنسان تبرؤا! {قال قرينه ربّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد} هكذا يقول اللعين : ((ما أنا الذي جعله يتكبر في الأرض ويطغى!.. ما أنا الذي أرغمه على الكفر بالله رب العالمين!.. بل هو الذي اختار الضلال بهواه، وأوغل في ظلماته بعيداً بعيدا!)).. صحيح أن الشيطان يوسوس للنفس ويزين لها شهواتها، لكنه لا يُكره أحداً على الكفر والفسوق والعصيان… ولكنها النفس المتمردة على خالقها تستحلي وسوسة إبليس وفتواه، وتستجيب بهواها لنداء النار! و لذلك حق عليها العذاب، ووقع عليه عقاب الله بعدله الحكيم! {قال لا تختصموا لديّ وقد قدمت إليكم بالوعيد. ما يُبدّل القول لديّ وما أنا بظلام للعبيد}. هكذا يحسم الرحمن الخصومة اليائسة : لا حق لكم -معشر الجن والإنس- في التخاصم عندي اليوم وتبادل التهم، بما كنتم فيه تشتركون من الكفر والطغيان؛ لا حق لكم في ذلك إطلاقا، وقد سبق العلم لديكم بما قدمت لكم من النذارة بهذا اليوم، والوعيد بعذابه الشديد.. وقد تتابعت الرسالات من الله تترى مخبرة بخبر هذا المصير.. كما تتابع بعث الرسل والأنبياء عبر تاريخ البشرية الطويل، يبلغون للناس كل الناس خبر هذا الدين، وحق الله رب العباد على العباد أجمعين! فلا مبدل اليوم لقضاء الله، ولا راد لحكمه إذا حكم بين العباد. وحكمه لا يكون -على كل حال- إلا على تمام عدل الله المطلق! وما كان الله ليعذب أحداً بجرم أحد! بل لا تحاسب كل نفس إلا بما كسبت! فلا عبد يصيبه اليوم ظلم، ولو قدر قِطْمير! ونفي الظلم عن الله -جل ثناؤه- ههنا بصيغة المبالغة ((ظلاّم)) دالُّ على شدة النفي لأقل الظلم! فهذا الرب الجليل ملك عظيم لا يظلم عبيده أبداً! هذا يوم الحق، هذا يوم الفصل، هذا يوم الجزاء الأكبر…! وإنه لموقف رهيب رهيب؛ إذ يلقي الخطاب القرآني بصورة مخيفة في النفس، يصور في بضع كلمات أفواج الملقى بهم في جهنهم؛ بما تُوهِم كثرته بأنها قد غصت بأهلها، وأنه لم يعد في دركاتها مكان لعدو آ خر من أعداء الله! ذلك ما لا تنطق به العبارة، ولكنها تلقي صورتَه في النفس من خلال جواب جهنهم عن سؤال الرب الجليل -وهو أعلم بحالها- إذ قال : {يوم نقول لجنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد}.. وما هو بسؤال للاستعلال -والله جل جلاله هو العليم الخبير- ولكنه سؤال للتخويف والترهيب بحقيقة جهنم، وبيان امتداد شعابها الملتهبة، وعمق دركاتها المظلمة، واستيعابها لجميع الكفرة والعصاة من البشرية جميعاً! فقولها : {هل من مزيد}؟ هو قول دال على شعور الجحيم بالحاجة إلى حطب جديد، حطب ليست طبيعته إلا من هذه اللحوم البشرية الكفّارة العنيدة! وهو دال على غضبها وهيجانها وتغيظها المخيف! وإن ألسنتها لتمتد من جوفها فتتخطف أهلها تخطفاً فإذا بهم في سواء الجحيم! نسأل الله السلامة والعافية! وفي بيان نبويّ لهذه الآية يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هيجان جهنم في حديث عجيب يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لا تزالُ جهنّم يُلقَى فيها وتقُول : هل من مزيد؟! حتى يضَع ربّ العِزّة فيها قدمَهُ؛ فينْزوِي بعضُها إلى بعض! وتقول : قطْ قطْ، بعِزّتِك وكرمِك! ولا يزال في الجنّة فضْل حتّى يُنْشِئ الله لها خلْقاً، فيُسكِنهم فضْلَ الجنّة!))(متفق عليه).

فريد الأنصاري رحمه الله تعالى

 

——-

1- وهو المعنى الذي اعتمده سيد قطب رحمه الله في ظلاله، كما انتصر له العلامة الطاهر بن عاشور بقوة! في تفسيره للآية.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>