تحدثنا في الحلقة الماضية (المحجة عدد 384) عن الآية الأولى من بين الآيات الثلاث التي تتضمن مميزات اللغة العربية في علاقتها مع القرآن، وفي هذه الحلقة نشرح كلمات الآية الثانية بحول الله مع استخلاص ما يمكن استنتاجه مما له علاقة بالموضوع، وهذه الآية هي قوله تعالى :
2- {وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وإنه لفي زبر الاولين}(الشعراء 192- 193).
تتضمن هذه الآية وصف اللسان العربي بالبيان على غرار الآية الأولى التي شرحنا كلماتها، وناقشنا مضمونها في العدد المشار إليه أعلاه، ونناقش كلمات هذه الآية أيضا بعد تقسيمها شكليا إلى ثلاثة أقسام نقف في القسم الأول عند كلمة “العالمين” والثاني عند “المنذرين” والثالث هو الباقي من الآية. وذلك بعد تحديد الموضوع المتحدث عنه انطلاقا من الضمير “إنه” وذلك كما يلي :
القسم الأول {وإنه لتنزيل رب العالمين} والدلالات الجزئية لكلماته كما يلي :
- وإنه : يبدو من وجود واو العطف قبل الضمير أن هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، وهذا ما يفسره الضمير المؤكد بإنَّ “إنه” وفي هذا يقول القرطبي : ((قوله تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين} عاد (أي الضمير إنه) إلى ما تقدم بيانه في أول السورة من إعراض المشركين عن القرآن))(1)، ويزيد أبو حيان هذه المسألة توضيحا بقوله : ((الضمير في “إنه” عائد على القرآن أي إنه ليس بكهانة ولا سحر، بل هو من عند الله، وكأنه عاد أيضا إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر، ليتناسب المفتتح والمختتم))(2)، هكذا يتحدد الموضوع المتحدّث عنه بفتح الدال انطلاقا من دلالة هذا الضمير، وتركز هذه الآية في مجملها على وصف اللسان العربي باللسان لأجل أداء وظيفة الإنذار، هذا بعد وصف هذه الرسالة التي جاء هذا اللسان ليبلغها بالشكل المشار إليه (وهو الإنذار) بأنها {تنزيل رب العالمين}. ولمكونات هذه الآية خصائص تميزها في الكلام العربي سواء بالنسبة لمفرداتها، أو تراكيبها، فنحن نلاحظ مرة أخرى علاقة المضاف “تنزيل” بالمضاف إليه المركب بدوره تركيب إضافة {رب العالمين} ولسنا في حاجة إلى مناقشة علاقة المضاف بالمضاف إليه مرة أخرى لضبط ما يترتب عن ذلك من دلالة، فقد تقدم هذا في العدد 383. أما ما يتعلق بمفردات هذه الآية، فهي كلمات عربية ولاشك، ولكنها متميزة في صيغها ووظائفها من ذلك :
1- كلمة “تنزيل” وهي مصدر نزّل بتشديد الزاي، والتعبير بالمصدر غير التعبير بغيره من الجوامد والمشتقات، وفي هذا السياق يقول ابن يعيش وهو بصدد المقارنة بين دلالتي الفعل والمصدر تمييزاً لهما عن الاسم ((ويرد هذا الحد (أي حد الاسم وتميزه عن الفعل في عدم اقترانه بزمان) المصادر وسائر الأحداث (أي المصادر) لأنها تدل على معنى وزمان (أي ان المصادر كالأفعال تدل على معنى وزمان) لكن دلالة الأفعال غير دلالة المصادر، ولذا أضافوا : (أي النحاة) إلى تعريف الفعل كلمة “محصل” أي الزمان المقيد بكونه ماضياً ، أو مضارعاً، أو مستقبلا، في حين أن زمان المصادر غير مقيد، وإنما هو زمان مطلق، وهذا الإطلاق هو الذي يميز دلالة المصادر عن دلالة الأفعال في هذه المسألة… لأن زمان المصادر مُبْهم.. والمصادر لا تدل على الزمان من جهة اللفظ (كالأفعال) وإنما الزمان من لوازمها وضروراتها…))(3). وهذا الاستطراد العارض المتعلق بالفرق بين دلالتي الفعل والمصدر لأجل توضيح دلالة المصدر “تنزيل” الوارد في صدر هذه الآية التي نحن بصدد توضيح دلالات بعض كلماتها.
2- وليس هذا هو الذي يميز هذه الكلمة “تنزيل” فحسب، بل ثمة سمات أخرى تميزها وتقوي دلالتها منها أن الأصل (المباشر) الذي هي مصدره هو “نزّل” على وزن “فعّل” بتشديد العين، ولكل من التشديد والتضعيف وظيفته الدلالية، وفي هذا السياق يقول الزركشي في سياق حديثه عن وظائف الزيادة في بنية الكلمة ((…ومن الزيادة بالتشديد أيضا، فإن “ستّاراً” و”غفّاراً” أبلغ من “ساتر” و”غافر” لهذا قال تعالى : {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفّارا}(نورح : 10) ومن هذا رجّح بعضهم معنى “الرّحمن” على معنى الرحيم لما فيه من زيادة البناء… ويقرب منه التضعيف -ويقال التكثير- وهو أن يوتى بالصيغة دالة على وقوع الفعل مرة بعد مرة، وشرطه أن يكون في الأفعال المتعدية قبل التضعيف، وإنما جعله متعدياً تضعيفه. ولهذا رُدّ على الزمخشري في قوله : {وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا} حيث جعل “نزّل” هنا للتضعيف. وقد جاء التضعيف دالا على الكثرة في اللازم قليلا، نحو موّت المالُ. وجاء حيث لا يمكن فيه التكثير كقوله تعالى : {قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزّلنا عليهم من السماء ملكاً رسولا}(الإسراء : 95).
نقف في هذا النص الذي أوردنا للزركشي عند بعض الكلمات والمفاهيم التي وردت فيه رفعاً لما قد يشوبها من الغموض واللّبْس، منها : مصطلحي التشديد والتضعيف، فالذي يبدو أن المصطلح الأول (أي التشديد) يطلق على العلامة التي توضع على الحرف، أما الثاني أي التضعيف فيعني المعنى الناتج عن وضع الشدة على حرف من أحرف الكلمة، ذلك أن الشدة عندما توضع على حرف من أحرف الكلمة (التامة البنية) فإن ذلك الحرف يعتبر بحرفين، ويعتبر ذلك زيادة في بنية الكلمة، ومن ثمة يتغير معناها كما هو مشار إليه في الأمثلة أعلاه وفي هذا السياق يقول الرازي ((ذكر الخليل أن التضعيف، أن يزاد على أصل الشيء))(4) ويقول ابن منظور : ((وأضعف الشيء وضعّفَه وضاعفه : زاد على أصل الشيء وجعله مِثليْه وأكثر، وهو الضعيف والأضعاف))(5). وهذا المفهوم أي التضعيف ينطبق على الكلمة رقم (2) في هذه الآية “نزّل”.
من الناحية الشكلية، فهل هذا الفعل دال على وقوع الحدث مرة بعد مرة؟ وهو ما فسر به الزركشي دلالة مثله على التكثير أعلاه، وهذا ما يبطله الشرط الذي قيد به هذه الدلالة وهو أن يكون الفعل متعديا قبل التضعيف، والفعل هنا “نزّل” قبل تضعيفه لازم، وهذا القيد أي اللزوم هو الذي تم الرد به على الزمخشري بخصوص هذا الفعل نفسه كما هو واضح في النص أعلاه، بقي أن نحمل دلالة هذا الفعل “نزّل” في هذا السياق على الكثرة، وهذا ما ينسجم مع حالته التركيبية وهي أنه فعل لازم قبل تضعيفه، وهو ما يفسر قول الزركشي في النص أعلاه حيث قال : ((وقد جاء التضعيف دالا على الكثرة في اللازم قليلا.. وجاء حيث لا يمكن فيه التكثير كقوله تعالى : {قل لو كان في الارض ملائكة..}الآية.
وهذه الإحالة على ما ورد في النص الذي أوردناه للزركشي بخصوص تطبيق مضامين قيودها على فعل “نزّل” في سياق الآية التي نحن بصدد شرح دلالات كلماتها، لا توضح دلالة هذا الفعل “نزّل” بالشكل المطلوب في سياقه، فهو فعل لازم؛ فعلا قبل تضعيفه، ولذا يحتمل الدلالة على الكثرة كما تنص عليه هذه القاعدة، لكن ما علاقة مفهوم الكثرة بهذا الحدث الخاص الذي يعني أن القرآن {تنزيل رب العالمين} لأن فعل “نزّل” هو أصل “تنزيل” والعلاقة قوية بين دلالتي الأصل “نزّل” والفرع “تنزيل”؟ وعليه فكيف نفسر مفهوم الكثرة في علاقته مع القرآن في هذا السياق؟ ومما يلحق بهذا بخصوص غموض دلالة هذا الفعل قوله : ((وجاء (أي الفعل المضعف) حيث لا يمكن فيه التكثير…الآية يبقى السؤال معلقا بالنسبة لدلالة الفعل المضعف حيث لا يمكن فيه التكثير؟
ولعل مفتاح الإجابة عن هذا الإشكال يوجد فيما يلي : يقول ابن قتيبة ((وتأتي فَعَّلْتُ بمعنى أفعلت كقولك : ((خبّرت و”أخبرت، وسمّيت وأسميت، وكثّرت وأكثرت))(6) ويوضح الثعالبي المسألة في هذا السياق بشكل أكثر دقة حيث أورد مجموعة من الأمثلة ضمّها الفعل المتحدث عنه “نزّل” وفي هذا يقول : ((وفعّل يكون بمعنى أفْعل نحو خبّر وأخْبَر، وكرّم وأكْرم ونزّل وأنْزل))(7)، هذا مفتاح لحل هذا الإشكال كما سبق ذكره، ذلك أن الأمر يحتاج إلى أمرين اثنين :
أولهما : عرض وظائف “أفعل” الدلالية، للوقوف على أيها أنسب لتفسير دلالة فعّل هنا.
وثانيها ضبط قاعدة التضمين التي تتبادل على أساسها الكلمات المواقع حيث يؤدي بعضها معنى الآخر، وما يترتّب عن ذلك من تغيير في دلالة هذه الكلمة أو تلك، وقد أورد ابن عصفور أحد عشر معنى لصيغة “أفعل” بعد أن ذكر أنه يكون متعديا وغير متعد، ومن بين هذه المعاني ((الجعل وهو ثلاثة أوجه نرى أن أنسبها للسياق الذي نحن فيه هو “أن نجعله على صفة مثل قولك “أطردته” : جعلته طريداً))(8) وعليه فمعنى “نزّل” الذي هو أساس مصدر “التنزيل” الوارد في هذه الآية التي نناقش دلالات كلماتها هو أن الحق سبحانه جعل القرآن ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم. وبهذا يكون فعل “نزّل” متضمناً معنى “أنزل” الذي يفيد الجعل والتصيير وبذلك تكون العبارة أقوى ممّا لو كانت دالة فِعْل “نزّل” بسيطة أي غير متضمنة معنى “أنزل”. وفي هذا السياق يقول الزركشي في تعريف التضمين في مجال الأفعال : ((وأما الأفعال فأن تُضمِّن فعلاً معنى فعل آخر، ويكون فيه معنى الفعلين جميعا…))(9) وهذا ما نراه بالنسبة للفعل “نزّل” الذي جاء بمعنى “أنزل” والله أعلم.
-يتبع-
د. الـحـسـيـن گـنـوان
——
1- الجامع لأحكام القرآن 138/13.
2- البحر المحيط 188/8.
2- شرح المفصل 23/1 بتصرف.
4- مختار الصحاح مادة ضعف.
5- ل ع 204/99 مادة ضعف.
6- أدب الكاتب 354.
7- فقه اللغة وسر العربية ص 363.
8- الممتنع في التصريف 186/1.
9- البرهان 388/3.