((حصلت على الباكلوريا، حاولت أن أتابع دراستي لكن لما لم أجد شيئا، تسجلت في الكلية)).
هذه هي العبارة التي نطقت بها إحدى الطالبات، حينما سُئِلت من قبل القناة الأولى عن شعورها وهي تستقبل الدخول الجامعي لأول مرة. عبارة تدل على الصورة السلبية للجامعة وكلياتها في ذاكرة الطالب، وربما في مخيلة المجتمع المغربي برمّتِه. وحينما يُقال الجامعة، فإن المقصود في الذاكرة العامة غالبا هو الكليات ذات الاستقطاب المفتوح؛ أي كليات الآداب والعلوم والحقوق، وأما المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود، من المدارس العليا للهندسة على اختلاف تخصصاتها، والتجارة والتسيير والتكنولوجيا وغير ذلك، ويمكن أن يلحق بها أيضا كليات الطب، فلا تحسب على الجامعة، لأنها تشترط مستوى معينا ونقطا محددة للالتحاق بها، أو كأنها كذلك عند عموم الناس. إنها صورة قاتمة للجامعة في الوعي الجماعي المغربي، لا لشيء إلا أنها في نظرهم ليست إلا مجالا للاضطرابات والإضرابات والنضال السياسي، وخاصة في بعضها، أو هي مرحلة عبور إلى عالم البطالة والضياع. أما تلك الصورة المشرقة للجامعة التي هي محضن العلم والفكر والتنوير والثقافة، فلا توجد ربما إلا في أذهان بعض الأساتذة الذين نذروا أنفسهم وأوقاتهم ومجهوداتهم وأعصابهم من أجْل النهوض بالمستوى العلمي في الجامعة، خدمة لهذا الوطن، دون كلل ولا ملل، ودون أن ينتظروا من أحد جزاءً ولا شكوراً. ولتصحيح هذه الصورة القاتمة لابد من تصحيح الأصل الذي يعكس هذه الصورة، عن طريق إعداد خطة طويلة المدى، لا تقوم على العجلة ولا على الاستعجال، ولكن على التأني والروية للنهوض بالجامعة المغربية والتعليم العمومي بصورة عامة. فالتعليم العمومي الذي تخرجت فيه الأجيال الأولى بعد الاستقلال، والتي هي الآن عماد الدولة، والإدارات والهيآت على اختلاف مستوياتها وأشكالها، هذا التعليم قادر من جديد على تخريج نخب متميزة وأجيال مبدعة إن هو أعيد بنيانه وتم إصلاحه على أسس منهجية متينة، تشخّص أولاً مكامن الضعف ومواطن الداء، وتأخذ بعين الاعتبار هوية المجتمع المغربي الإسلامية والحضارية والثقافية واللغوية، مع الانفتاح الرشيد على معطيات العلوم الحديثة والتقنيات المبتكرة في العالم بأسره، دون ربط هذا الانفتاح بهيمنة فكرية أو اقتصادية أو لغوية معينه، فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدَها أخذها.
إن الجامعة، أيّ جامعة بمختلف كلياتها، بما في ذلك كليات الآداب التي يُنظر إليها نظرة ازدراء في العادة، هي المحضن الأول والوحيد الذي يمكن أن يخرّج الأجيال العالِمة المفكرة المثقفة، المؤمنة بربها، والعارفة برسالتها والمُحبة لوطنها لكن، بشرط البناء الجديد لهياكل التعليم وبنياته؛ كل الهياكل والبنيات. وإذا كانت النظرة الحالية السائدة تقوم على ازدراء كل ما هو أدبي أو شرعي، وتمجيد كل ما ينتمي إلى العلوم الدقيقة، فينبغي في اعتقادي تصحيح هذه النظرة، وقلْب هذا الهرم من أساسه، لكَيْ تكون العلوم الشرعية في المرتبة الأولى، إذ بهذه العلوم يصلح أمر الدين والدنيا معاً، وبهذه العلوم يكسب المرء فلسفة التفكير ورؤية الإصلاح وأساس الفهم والتحليل، ويبني مستقبله على أساس حضاري رشيد، ينعدم، أو على الأقل يخبو فيه الغلو والتطرف والرفض، فضلا عن الإلحاد والكفر والتكفير. تليها العلوم الاجتماعية والقانونية والإنسانية والأدبية واللغوية، التي تؤمِّن للمثقف إدراك طبيعة الحياة وبناء المجتمعات، ومعرفة بنيانها وتاريخها وحضارتها ولغاتها وثقافتها، وآفاق مستقبلها. لتليها في الأخير العلوم الدقيقة التي هي ضمان التقدم العلمي والتكنولوجي للبلاد، والانفتاح على عالم الاختراعات والابتكارات الدقيقة. ليس هذا حلما أو إسقاطا غيبيا أو تحريفا إيديولوجيا، ولكنه الواقع والحقيقة، سواء أنظرنا إلى واقعنا الحالي، أم إلى التاريخ الإنساني على إطلاقه، إذ لا تَقدُّم ولا حضارة إلا ببناء الجانب الفكري والإنساني. وأكبر نموذج على ذلك في الوقت الراهن “الصين” فهي من الناحية الاقتصادية تُصنّف عملاق العالم نتيجة ما تصنِّعه في مختلف القطاعات، لكنها من الناحية الثقافية تُعد قزم العالم، فكم من المنتوجات التي نستعملها يوميا، بدءاً من الطاقيات والسبحات والسجادات، مرواً بأدوات المطبخ والتجهيز المنزلي، وانتهاءً بالمنتوجات والصناعات الكبرى لقطع الغيار المختلفة والمحركات على اختلاف أشكالها، والمنتوجات الصناعية التي تستخدم في مختلف القطاعات،، كل هذه المنتوجات تحمل عبارة “صُنع في الصين”… نستعمل كلنا هذه الأشياء، ونعرف في الغالب أنها منتوجات صينية، لكن قليل منا من يعرف شيئا عن ثقافة الصين وحضارتها وتاريخها ولغتها، ولذلك فبمجرد استهلاك هذه المنتوجات يذهب كل شيء.. لكن في المقابل؛ كم من المنتوجات الأخرى التي تُنتَج في مختلف بقاع العالم، بما في ذلك الصين، لكنها تُسوَّق بالإنجليزية، بدءاً بكتابة مكان الصنع والدليل والإرشادات ونحو ذلك. وذلك بسبب انتشار اللغة الإنجليزية وحضورها في كل مكان عن طريق مختلف القنوات، وفي مقدمة ذلك القناة الثقافية، لتليها قناة المنتوج الصناعي، حتى وإن قل شأن المنتوج شكلا وجوهرا.
ولقد انتبهت الصين مؤخرا إلى هذه الهوة الفارقة، وإلى العلاقة الوطيدة بين الإنتاج الصناعي وبين الثقافة بكل حمولاتها اللغوية والفكرية والحضارية، فبدأت في تأسيس مشاريع ثقافية كبرى، وطنيا وعالميا. فهل نعي هذه الدروس الواقعية، ونبني جامعتنا على هذه الأسس، بناء يستشرف مستقبلا حضاريا زاهراً وينشد نهضة علمية بانية؟؟
د. عبد الرحيم الرحموني