يأبى الله إلا أن ينسئ في أعمارنا حتى نكون شهودا على أعظم وأجل معجزة سياسية في العصر الحديث أعادت لأذهاننا قصة سيدنا يوسف \ بكل تجلياتها وعبرها المعجزة هذه المرة بطلها رجل من عامة الناس اسمه محمد مرسي، رجل بأمة يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، يخرج لتوه من غياهب سجون الظلم والقهر رأسا ليتبوأ ملك مصر عبر أول انتخابات حرة ونزيهه تعرفها البلاد منذ عهد الهيكسوس الذين حكموا مصر قبل مجيء الفراعنة. خرج الرجل رأسا من سجون مصر إلى قصر الرئاسة تماما كما خرج سيدنا يوسف من ظلمات الجب وغياهب السجن ليجتبيه ربه ويجعله على خزائن مصر كلها. خرج الدكتور مرسي إذن وبقي سجانوه في نفس السجن الذي وضعوه فيه ظلما وعدوانا، فنجاهم الله تعالى بأبدانهم ليكونوا للناس آية (اللهم لا شماتة). لم يكن الدكتور مرسي راغبا ولا طالبا للرئاسة وإنما دفع لها دفعا من قبل إخوانه ومحبيه من عامة الشعب الذين خبروا صدقه وعلمه وورعه وغيرته على الدين وثوابت هذه الأمة أيام المحن والسجون والسنوات العجاف. تولى الرجل الذي اعتبره الصحافي الشهير عبد الباري عطوان (مشروع استشهاد) للدفاع عن الحق والعدل وعزة الوطن وكرامة الإنسان المصري بل والمسلم أينما كان كما كان من قبل. تولى الرجل إذن ملك مصر ولم يقل {وهذه الانهار تجري من تحتي} ولم يشعر بكبر ولا خيلاء بل تواضع وانحنى شكرا لله تعالى. أتته كل مظاهر الصولة والصولجان تقول له “هيت لك” فأعرض عنها بكل أدب ولباقة :
1- رفض الانتقال إلى القصر الجمهوري مفضلا الإقامة في مسكنه المؤجر بين أهله وجيرانه وأصدقائه الذين عاش بين ظهرانيهم وتقاسم أفراحهم وأتراحهم يصلي في مساجدهم ويمشي في أسواقهم.
2- أصر على تقديم القسم في ميدان التحرير من أجل إثبات أن الشرعية الحقيقية هي للشعب الذي ثار على الاستبداد وقدم في سبيل ذلك كوكبة من الشهداء من خيرة شبابه.
3- قدم استقالته من الحزب الذي أوصله إلى الرئاسه وأيضا من جماعة الإخوان المسلمين التي تربى بين أحضانها طيلة حياته. كل هذا حتى يبقى رئيسا لكل المصريين يقف على مسافة متساوية بينهم جميعا على اختلاف توجهاتهم السياسية والعقائدية ضاربا بذلك أروع الأمثلة لمدعي الديمقراطية في العالم أجمع في العصر الحديث من (أبراهام لينكولن) كأول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية إلى آخر رئيس في جمهوريات الموز.
4- تعهد الرجل بأن يشكل فريقه وحكومته من جميع ألوان الطيف السياسي في البلاد حتى يتحمل الكل مسؤوليته التامة في إخراج البلاد من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية التي خلفتها الأنظمة الاستبدادية التي سبقت. وكما ذكرنا الدكتور مرسي بقصة يوسف، ذكرنا أيضا بأبي بكر في أول خطبة له بعدما أرغم على تولي منصب الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي أول خطاب له في ميدان التحرير، انتشلنا الدكتور مرسي من لغة الخطابات الخشبية التي مللنا سماعها من طرف الرؤساء العرب الأشاوس أصحاب النياشين والبزة العسكرية والأحذية الثقيلة إلى رحاب اللغة الراقية الرفيعة التي تحمل عبق الورع والتقوى وتذكرك بالله تعالى وتنعش قلبك بكل معاني الطمأنينة والسكينة واليقين في مستقبل يعيد للأمة عزتها وكرامتها التي مرغها الآخرون عند بوابات أعدائها. لم أصدق أذني وأنا أستمع إلى خطاب مرسي وهو يعيد على مسامعنا كلمات أبي بكر الصديق رضي الله عنه والتي خلناها من الماضي وانتهت ولا يمكن أن نقرأها إلا في كتب السيرة وحياة الصحابة : ((إني وليت عليكم ولست بخيركم))، ((أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم)).
كلمات نافذة تلخص زمن العزة والكرامة والنخوة التي عاشها المسلمون لقرون لما كانت رحمتهم وعدلهم وأخلاقهم تأسر القلوب وتملأ الآفاق حتى صارت لهم الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس حتى كان الخليفة هارون الرشيد يخاطب السحابة في عنان السماء قائلا “أمطري أنا شئت فسيأتيني خراجك”. أقول هذا الكلام وأنا أعلم علم اليقين أن الطريق لن تكون أبدا مفروشة بالورود أمام الدكتور مرسي، فهناك دائما مرجفون ومثبطون ومنافقون ممن لا يعجبهم العجب ولا الصوم في رجب وكل مواهبهم وضع العصي في عجلات أي عمل جاد وهادف وهكذا سنة الحياة تقوم على التدافع بين أنصار الحق والعدل وشياطين الزيغ والفساد {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض}. هؤلاء هم العبيد حقا لأنهم لا يتذوقون طعم الحرية فكلما طردهم سيد إلا وبحثوا لهم عن سيد آخر وهكذا. يستمرؤون الظلم والانبطاح ويكرهون الانعتاق والحرية. ويقفون بالمرصاد أمام كل برنامج طموح يخرج الأمة من وهدة السؤال والمسغبة إلى رفعة العزة والكرامة حتى تتصالح مع بارئها فتعود كما كانت دائما مصانة مهابة تأكل من عرق جبينها حتى يكون قرارها بيدها أو كما قال الشيخ متولي الشعراوي رحمه الله تعالى : (من لا يأكل من فأسه فقراره ليس في رأسه).
ذ. عبد القادر لوكيلي