يُعتبر سكوت المُفتي عند بعض الوقائع والأسئلة مَنهجا أصيلا في الإسلام؛ يتأسس على أصول شرعية ومقاصد تربوية ومصلحية، ولا يُقصد منه انعدام الحكم الشرعي، أو أن الإخبار به يرجع إلى مزاج المُفتي. فقد رُوٍي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:”إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودَاً فَلا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا”(1)، وفي الحديث المتفق عليه عن مُعاذ بن جبل رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: ” حََق الْعِبادِ عَلى اللهِ أَنْ لا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ: أَفَلا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا”. كما نجد هذا المنهج حاضرا عند أئمة الإسلام الأعلام؛ مع وجود فارق بين السكوتين؛ يتمثل في كون سكوت الشارع هو جواب وبيان بحد ذاته(2)، بينما سكوت المجتهد قد يكون عجزا منه عن كشف الحكم الشرعي في المسألة، وقد يكون غير ذلك -كما سنرى-.
لكِنَنَّا -للأسف- نجد في أيامنا هاته كثيرا من أهل العلم الذين يتصدون للفتيا تَصْدُرُ منهم أجوبة جزافا؛ أغلبها شاذ وخارج عن اجتهاد الأغلبية؛ و ذريعتهم في النُّطْقِ بها هي كونهم يَرَوْنَ أنهم ليس من حَقِّهِم أن يكتموا العلم أويَسْكُتُوا عن السؤالات الواردة عليهم، وإن كان ذلك السؤال واردا عليهم من قِبَل جريدة معروفة بإثارة اللغو و الأُغلوطات التي نهى عنها الرسول.صلى الله عليه وسلم(3) في مقالاتها تجاه القضايا الإسلامية. و المواطن التي يُسْتَحْسَنُ أن يسكت عندها المُفتي؛ هي كالآتي:
أولا: ما كانت مصلحة السكوت فيه أفضل مآلا من مصلحة النطق بالجواب: يُستفاد هذا الموطن؛ من الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في الحديث المتفق عليه؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها:” لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين”. وما يَدُلُّ عليه هذا الخبر من النَّظَرِ في ترجيح المصلحة المآلية الغالبة على المصلحة الحالية للنُّطْقِ بالحُكم الشرعي؛ هو الذي جعل الإمام مالك رحمه الله يَنْصَحُُ أبا جعفر المنصور عندما استفتاه في إعادة بناء الكعبة؛ بقوله:”أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيَّرَه؛ فتذهب هيبته من قلوب النَّاس”(4). ومن تطبيقات هذه الموازنة المصلحية المآلية؛ ما اشتُهِرَ عن ابن تيمية رحمه الله أنه مر بقوم من التَّتَارِ كانوا يشربون الخمر، ولم ينههم عن شرب الخمر، وكان معه صاحب له؛ فقال له (أي؛لابن تيمية): لماذا لم تَنْهَهُم؟!.
قال: لأنهم لو تركوا شرب الخمر، لذهبوا يهتكون أعراض المسلمين، ويغصبون أموالهم، وهذا ظلم متعدٍ، وهو أعظم من الظلم القاصر الحاصل بشرب الخمر.
ثانيا: المسائل التي تحتاجُ لاجتهاد جماعي: ويمكن أن نُدْرِجَ في هذا المجال النوازل المستجدة؛ لأنها ذات طبيعة مُعقَّدة، وتحتاج إلى مُحَقِّقِي مناط من مختلف العلوم (الطبيعية والإنسانية) لاستيعاب حقيقتها لدى المُفتي، ويَتَصَوَّرَها تصورا مضبوطا قبل الإفتاء فيها.
كما تدخل فيه القضايا المُتعلقة بالسياسة الشرعية وتدبير الشأن العام لتَمَيُّزِها بكثرة التَّقْدِيرَات المصلحية و الإشكالات الناجمة عنها؛ لذلك فإن الفتاوى في مثل هذه المسائل إذا لم تَصْدُرْ عن مؤسسة فقهية اجتهادية ذات مصداقية سَيَنْتُجُ عنها الخلاف المذموم الذي يَصِلُ إلى درجة التَّضارب والتَّعَارض، وهو ما لا يَجْمُلُ أن ينسب إلى الدين الحنيف؛ إلا إذا اعْتُبِرَ أنه من قبيل الرأي وليس من باب الفتوى الشرعية المُلْزِمة ديانة للمسلمين. ونظرا لأهمية مسلك الاجتهاد الجماعي في هذا المجال كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على تعليمه للصحابة رضي الله عنهم، وبه التزم الخلفاء الراشدون من بعده؛ حيث كانوا إذا عرض عليهم الأمر جمعوا علماء الناس واستشاروهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضوا به(5).
ثالثا: ما يدخل في إطار الجدل : مثاله الخوض في القضايا الشاذة أو النادرة الوقوع التي تندرج تحت القاعدة الأصولية “النادر لا حكم له”.
ومنها أيضا؛ الخوض في المسائل التي لا ينبني عليها عمل(6)، وهو ما أصله الإمام أبو إسحاق الشاطبي في المقدمة الخامسة من “الموافقات” بقوله:”كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا، والدليل على ذلك استقراء الشريعة: فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به”(7).
رابعا:ما يقتضيه منهج تبليغ الفتوى: يتطلب منهج الإفتاء من المُفتي الأناة والَتَثُّبتَ وعدم التَّسَرُّع والاستشارة واستحضار هيبة الفتوى قبل الإجابة، لأن صواب الجواب مُحتاجٌ إلى التَّصَوُّرِ المُحكم للمسألة، و”وضع الصور للمسائل ليس بأمر هين في نفسه”(8)، ومن هذا الوجه يُفهم قول الإمام مالك رضي الله عنه حينما”سُئِل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري”(9)، وجاء في الأثر:” إِذَا أَغْفَلَ الْعَالِمُ لا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ”. أيضا؛ ينبغي على المُفتي أن يَسُكُتَ عما يفوق قدرة المستفتي عن الفهم ويقتصر على ذكر الحكم الشرعي فقط؛ كما جاء في الخبر الموقوف عن الإمام علي رضي الله عنه:”حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله”(10). وأخيرا؛ يَنْبَغِي على المُفتي أن يَتَذَّكَّرَ دائما خُطُورة مَنْصِبِ الإفتاء وعاقبة الارتجال فيه؛ كما قال الإمام مالك:” من أحب أن يُجِيبَ عن مسألة، فَلْيَعْرِض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يُجِيب”(11).
ذ. طارق زوكاغ
——–
1- حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
2- لذلك وضع الأصوليين قاعدة:” السكوت في موضع الحاجة بيان”.
3- ينظر مسند الإمام أحمد عن معاوية رضي الله عنه (ج:5 /ص: 435)؛
4- (الموافقات؛ 3/289)
5- ينظر أمثلة التشاور في الفتوى في “أعلام الموقعين” لابن القيم (ج:1؛ص:67).
6- وقد أدب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغ وعزره لكثرة أسئلته عن أشياء تتعلق بعلوم القرآن لا يتعلق بها عمل. (ينظر الموافقات للشاطبي، ج:1، ص:50).
7- ينظر “الموافقات”؛ (ج:1، ص:46-56).
8- ينظر كتاب” حقيقة القولين” لأبي حامد لغزالي؛ ص: ص:48.
9- ينظر الموافقات (ج:4/ص:288)
10- صحيح البخاري؛ (كتاب العلم- باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا).
11- يُنظر “ترتيب المدارك” للقاضي عياض؛ (ج:1/ص:179)