مقدمة
إن الله تعالى فرض على المسلمين رمضان للتزود من الطاعات، وجعله موسما للتقرب إليه بسائر القربات من صيام وقيام وذكر وقراءة للقرآن واستغفار وصدقة وتخلُّقٍ بكل خلق حسن…..
إن من خصائص رمضان أنه يوفر الجو الرباني الروحاني بما يُتَيَسر فيه من عبادات متنوعة لا تُتاح في غيره من الشهور، فعندما يَحُل هذا الشهر ضيفا على المسلمين ينالون من بركاته المتنوعة، وتُتْحفهم رحماته، وتغمرهم نفحاته الإيمانية. إلا أن بعض الناس -وخلافا لما شُِرعَ منْ أجْلِه رمضان- لا يُعطونه حقه، ولا يقدِّرونه حق قدره، ولا يؤدونه كما هو مطلوب، بل يفتقد صيامُهم إلى ما يجعلُه صحيحا كاملا، وتظهر عليهم فيه سلوكات خاطئة، وعاداتٌ قبيحةٌ تستولي على اهتماماتهم، وتظهر على جوارحهم فتعكر صفو صومِهم، وتفوِّت عليهمُ الأجر العظيم، وتُوقِعُهم في الإثم المبين، يفعلونها إرضاءً لأنفسهم، واتباعا لرغباتهم، وتلبيةً لشهواتهم في هذا الشهر الفضيل الذي لا ينبغي أن يُقابَل بهذا الإخلال والإهمال، ولا أن تُرى فيه هذه العادات السيئة، وهي أمور تدُلُّ فيما تدُلُّ عليه على عدم فهْمِ الناس لأهداف ومقاصدِ الشعائر الدينية عامةً، وجهلِهم بأهدافِ الصيام وسُننه وآدابه خاصة، وبقيمةِ هذا الشهر وفضلهِ على سائر الشهور، وتفريطهم في فوائده وعوائده. وأغلبُ الناسِ لمْ يُدركوا المعانيَ الحقيقيةَ للصوم، أو غاب عنهم مفهومه الحقيقي كليا، وأصبحوا ينظرون إليه كإحدى العادات الاجتماعية السنوية التي تعَوَّدوا استقبالها وإحياءها كل سنة، دون أنْ يتأملوا في مقاصده وأهدافه، ولا أن يتفكروا في أسراره، ولا أن تظهرَ عليهم فوائدُه وآدابه، وبالتالي غاب تأثيره في حياتهم وواقعهم وفي حالهم مع ربهم عز وجل.
وفي هذا الموضوع سأتكلم عن أشهرِ هذه العادات وأكبرِها ضررا على الصائمين، وأثرها في إفساد صومهم:
اسـتـثـقـالُ الـصـوم
يُلاحظ أنَّ بعضَ الناس يستاؤون ويغضَبون إذا دخلَ رمضان، وكم يتمنون مرور ساعاته وأيامه بسرعة، وكم يترقبون خروجَه بتلهف، لأنهم يرون أن فيه حرماناً لأنفسهم من شهواتها وملذاتها، وقطعا لمألوفاتها وكبحا لرغباتها، ولأنهم يرون- حسب زعمهم وفهمهم- أن الصيامَ يُسبِّبُ لهم التعبَ والعياءَ والعطشَ، مما يقلل من عطائهم ويُضْعفُ جهدهم في أعمالهم، فترى أنفُسَهم قلِقَةً، وصدورهم حرجة ضيقة، ووُجوهَهُم عابسةً مكفَهِرَّةً، يشْكُون ويتألمون، ولا يكملون يومهم إلا بِشِقِّ الأنفُس مُجاراةً وتقليدا للناس، وخوفا من الفضيحة والعار، ولذا فهُمْ يُفضِّلون عليه غيرَه من الشهور، ويَرونَه كضيفٍ ثقيلٍ حَلَّ بهم يتمنون رحيلَه سريعا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((فلا مر بالمنافقين شهرٌ شَرٌّ لهم منه))(1). وعلى العكس من حال هؤلاء ينبغي للمؤمن أن يفرَحَ ويُسَرَّ بقدوم رمضان ويستبشرَ بحلوله ودخوله، ويَسْعَدَ بأيامه العظيمة، وينعم بلياليه الكريمة، وتطيبَ نفسُه بمنافعه الجسيمة، قال الله عز سبحانه: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فيفرحوا، هو خير مما يجمعون}(2)، ويَعْقِدَ العزم على صيامِه أحسن صيام، وإكرامِه غاية الإكرام، ويحرصَ ألا تفوتَه فُرَصُه وفوائده وخيراته، ويستعِدَّ لذلك أفْضَلَ استعداد، وليجمع لذلك من الزاد ما يؤهله ليكون أحسن منِ استفاد، وإذا أكمل صوم رمضان تمنى حلوله بشوق وتوق.
الإســراف والـشّـرهُ
كثيرٌ من الناس يفهمون أنَّ رمضان شهر للأكل والشرب والتمتع، فتراهم يستعدُّون له قبل حلوله ودخوله، وذلك بإعداد أنواع الحلويات والمأكولات، ويدَّخرون بعض الأطعمة التي قد تنفَدُ في رمضان، وكأنه قد حل موسم جوعٍ وقحط، ويزعُمُ البعض أن الصيام يقطع عنهم أكلهم وشهواتهم في النهار، فتراهم إذا جاء الليل ملؤوا الموائد بأنواع المأكولات وألذٍّ المشروبات، فيجعلون لياليَ الصيام للمزيد من الاستهلاك والإسراف والتبذير والنَّهَم والشَّرََه، فترى الناس في الأسواق والمتاجر يزدحمون ويتسابقون على السلع والمشتريات ويُزايِدون في أثمانها، فترتفع أسعارها وتحدث الفوضى والشِّجار والتدافع حولها، فتنفد السلع لكثرة الطلب عليها مما يسبب لكثير من الفقراء الحرمان منها وهم في أشد الحاجة إليها، ويدفع بعض التجار الفجار لاحتكارها من أجل بيعها بأثمان غالية عالية. وأغلب الناس تُضاعَف ميزانية إنفاقهم في هذا الشهر، ولا يكفيهم مُرتَّبُهُمُ الشهري فيه، بل يلجؤون إلى مدخراتهم أو إلى الاقتراض بالربا المحرم، حيث يستجيبون لإغراءات وتشجيعات البنوك الربوية فيسقُطون في الحرام وفي مستنقع الآثام، وأكثرُ الموظفين يشتكون مما يحدثه لهم هذا الشهر من نفاد في أموالهم، وما يترك خلْفَهُ من ديون ثقيلة عليهم، يستمر تسديدهم لها شهورا بعد رمضان. فهذا الإسرافُ وكثرةُ الإنفاق والاستهلاك الزائد ليس من مقاصد الصيام، بل على العكس من ذلك فرمضان شهر الرخاء والاقتصاد والتقلل والزهد والتقشف وترشيد النفقات، والاكتفاءِ بالضروريات دون الكماليات، وشهرٌ لحلول البركات من الأرض والسماوات، شهرُ غذاءِ الأرواح والقلوبِ لا الأبدانِ والأجساد، يقول الله عز وجل:{وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين}(3)، والتقللُ سنةٌ نبويةٌ عاش عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ومات عليها وأوصى بها، قال صلى الله عليه وسلم : ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ))4، والقُوتُ ما يكفي دون زيادة، التقللُ إمساكٌ على زمام النفس لكيلا تجتلِبَها المغريات، وكان رسول الله سيدَ هذه المنزلة، أوصى بالتقلل حتى يكتفيَ المؤمن في خاصة نفسه بمثل زاد الراكب، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرةَ رضي الله عنه : ((يا أبا هريرة: ((كن وَرِعا تكن أعبدَ الناس، وكُنْ قَنِعا تكن أشكر الناس))(5)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسْبِ ابن آدم أكُلاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَه، فإنْ كان لا محالةَ فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلث لنفَسه))(6).
الـغَــضـب وسـرعـة الانـفـعـال
نرى بعضَ الصائمين يغضَبون لأتفه الأسباب، فيسُبُّون ويشتمون ويقولون فحشا وقبحا ومنكرا من القول وزورا، ويتراشقون بالكلام الساقط ويتشاجرون ويتخاصمون، ويخرج من أفواه بعضهم كلامٌ قد يُخرج من الملة إلى الكفر، كسَبِّ الدين أو الرب سبحانه، وقد ينشَبُ العراك وتسيل الدماء، وتزهق الأرواح. وهذا سلوك يتنافى مع أخلاق هذا الشهر الكريم، ومع ما هو مطلوب منا فيه من إمساكٍ للسان عن اللغو والفحش وصونٍ له عن البذاءة والصخب، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي عن الصيام: ((فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يومُ صومِ أحَدِكُم فلا يرفُث ولا يصْخَبْ، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَلَه فيقل: إني امرؤ صائم))(7)، وفي رواية : ((فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم، مرتين}(8). فينبغي للصائم أن يُمسكَ لسانَه عن القول الذي لا يُرْضِي اللهَ، وليكُنْ عفُوََا صفوحا حليما رحيما، ولا يعبأ بعبارات الطائشين، ولا يستَخِفُّه أصحاب اللسان الآثم فيهلك مع الهالكين.
الـسَّهـر و الــغــفـلة
من المشهور عند الناس في رمضان أنه شهر السمر والسهر إلى ساعات متأخرة من الليل، فأغلبُ الناس يُحْيُون لياليَ رمضان في الملاهي والمقاهي وفي الشوارع والأرصفة، وفي الغفلة والقيل والقال واللهو واللغو، والخوض في الباطل، وأمام التلفزات لمشاهدة القنوات الفضائية والانتقال من واحدة إلى أخرى بحثا عن أغنية أو مَنْظَرٍ أكثر متعة، أو مُتْعة أكمل، أو مسلسل أو فيلم أفضل، أو بحثا في شبكة الإنترنت العالمية عن المواقع الإباحية والرذيلة، وآخرون يلجؤون إلى لَعِبِ الورق والشطرنج وربما القمار المحرم، الشيء الذي يجعلهم يعوِّضون سهرهم بالليل بنوم النهار، مما يُضِر بأعمالهم، خاصة الموظفين منهم، فتراهم في مواعيدهم متأخرين، وفي مكاتبهم متكاسلين، تظهر عليهم علامات الخمول والإرهاق والعياء، مما يقلل من عطائهم في العمل وإخلاصهم فيه، الشيء الذي يجعلهم يُخِلُّون بأعمالهم ولا يؤدونها على الوجه الأكمل، ويعطلون مصالح الناس، ويُغلقون أبواب المكاتب في وجوههم ويردونهم يوما بعد يوم بدعوى تعب الصوم. وإن رمضان يَعْرِفُ قلبا لحقيقته وتشويها لصورته من طرف بعض وسائل الإعلام والقائمين عليها، حيث يعملون على تضليل الناس وإخفاء حقيقته في نفوسهم، إذ يملؤون برامج هذا الشهر بالسهرات والحفلات والمسرحيات والأفلام ومختلف الفكاهات وكأن رمضان شُرِعَ من أجل ذلك. وتَفْتَح المقاهي والملاهي ودور السينما أبوابها مباشرة بعد الإفطار وعلى مدار الليل لجلب الناس و(إتحافهم وإمتاعهم) بسهرات رمضان الغنائية المسلية الملهية طلبا للربح الوفير، ضاربين بعُرض الحائط حُرْمَة رمضان، حيث تختلط أصوات المؤذنين والمقرئين بأصوات المطربين والفنانين، وهذا منكر وضلال عظيم وفهم للدين سقيم. والأَوْلى للساهرين في التوافه أن يُشغِلوا أنفسهم بذكر الله والاستغفار وقراءة القرآن والاستماع لدروس الوعظ والعلم، ومجالسةِ العلماءِ في المساجد، وحضور الندوات والمحاضرات التي تكثر في رمضان، ومتابعة البرامج النافعة في القنوات الفضائية، مما يزيد من فهمهم لأحكام الدين عامة وأحكام وآداب الصيام خاصة. والسهرُ فيما لا نَفْعَ فيه نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ((كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها))(9) إلا في خير، قال صلى الله عليه وسلم : ((لا سَمَرَ بعد الصلاة، – يعني العشاء الآخرة- إلا لأحَدِ رَجُلَين: مصلٍ أو مسافرٍ))(10)، وكان من موقف أمير المؤمنين-الملهم – عمر بن الخطاب أنه كان يضربُ الناس على السمر في الليل ويقول: أسَمَراً أوَّلَ الليل ونوما آخره. وللسمر الكثير بالليل أضرار كثيرة أهمها: تضْيِيعُ الأوقاتِ الفاضلة، والتفريطُ فيما يُتاحُ فيها من الخير، والحرمانُ من القيام في آخر الليل وما يكون فيه من بركات وكرامات وهِبات، وتضييعٌ لصلاة الصبح، وزهْدٌ في عطاءات الله لعباده المصلين الداعين المستغفرين في الأسحار حيث ينزل إليهم إكراما وإنعاما. ألا فليعلمِ الصائمون أن رمضان إنما فُرض ليكون وقاية وصيانة لنا من أخلاق منحطة، ولِيُزيل منا عادات سيئة ترسَّخَتْ فينا طوال السنة، وليربينا على الكمال الخلقي، وليدربنا على الصبر والتحمل، والإنتاج والبذل والعطاء والاقتصاد والجهاد والإحسان إلى خلق الله، والإخلاص والإتقان في الأعمال، وليزوِّد روحنا بالتقوى والزهد والورع، وليزكي نفوسنا حتى تسموَ إلى بارئها عبر مدارج القرب والزلفى، وليُطَهِّرَ المجتمعات مما انتشر فيها من فساد خلقي واقتصادي واجتماعي وسياسي…، وليحقق فينا العزة والإباء والشموخ. وتظهر هذه المعاني جلية من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين الذين فهموا الغرض والقصد من الصيام فصاموه وصانوه، وقدَّرُوه حق قدره، فكانت لهم العزة والمجد والسؤدد.
اللهم وفقنا للصيام الذي ترضاه، اللهم اجعلنا ممن صام رمضان وحفظ حدوده، اللهم اجعلنا ممن رفع الصوم منزلته وأعتق رقبته من النار آمين.
ذ. أحمد المتوكل
———
1- رواه ابن خزيمة
2- سورة يونس الآية 58
3- سورة الأعراف الآية 29
4- رواه الشيخان عن أبي هريرة
5- رواه ابن ماجة عن أبي هريرة بإسناد حسن
6- رواه الترمذي كتاب الزهد باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل
7- اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث رقم 707 محمد فؤاد عبد الباقي
8- نفس المصدر حديث رقم 706
9- رواه البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب ما يكره من النوم قبل العشاء
10- رواه أحمد كتاب مسند المكثرين من الصحابة باب مسند عبد الله بن مسعود، وحسنه السيوطي.