الكتاب الثاني: في سلطة اللسان وفيه بابان.
الباب الثاني: في ترشيد اللسان، وفيه ثلاثة أحاديث.
الحديث الثالث: في الجهاد باللسان. عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم))(1). رأينا في الحديث الأول من الباب الثاني الإجراء الأول لترشيد اللسان، وهو ترطيبه بالذكر ليكون كامل الجاهزية للفاعلية. ورأينا في الحديث الثاني خروج هذا اللسان بعد أن صار رطبا نحو الواقع ليشيع تلك الرطوبة بين الناس، أو على الأقل ليفسح المجال أمامها من خلال تغيير المنكر. والحديث الأول كما لا يخفى خاص بصاحب اللسان، أما الثاني فخاص بواقع أمته، ويمكن أن يشمل الواقع العام أيضا، وسنرى في الحديث الثالث من الباب نفسه امتداد اللسان إلى مساحة أخرى حيث تنتشر ديانات أخرى.
في الحديث النبوي ثلاثة أمور:
أولها أمر بالجهاد،
وثانيا مجاهدة المشركين،
وثالثها الجهاد بالأموال والأنفس والألسنة.
أما الأمر الأول فهو موجه للأمة، فلذلك استعمل الحديث واو العطف، ولم يشر إلى الاستطاعة كما رأينا في حديث تغيير المنكر، فدل على أن الجهاد يتطلب من الأمة تجييشا لجميع الإمكانات؛ لأن الأمر يتعلق بوجود هذه الأمة، وصراعها من أجل البقاء.
وأما الأمر الثاني فهو أن للجهاد اتجاها هو مجاهدة العدو، ولذلك عندما تحدث القرآن الكريم عن المواجهات الدامية بين المسلمين سماها اقتتالا ولم يسمها جهادا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}الآية2.
وأما الأمر الثالث فهو أنه يجب على الأمة أن تجاهد بالأموال والأنفس والألسنة، أي أنها يجب أن تعيش الجهاد بكل شُعَبه في كل حياتها. والجهاد باللسان محل الشاهد عندنا، وقد أطلقه الحديث النبوي ولم يقيده، مع العلم أن هذا النوع من الجهاد كان في العهد النبوي يتم بالشعر كما سنرى بعد في “كتاب حكمة الشعر”، وذلك الإطلاق يفيد أن المأمور به هو الجهاد باللسان، وأن الفن اللساني المجاهََد به متوقف على حجم انتشار الفنون اللسانية، ونوع العدو، والفن الذي يؤثر فيه أكثر، وبناء على ذلك فإن أي فن من فنون الأدب كان ذا فاعلية في الجهاد فهو الفن المأمور به.
هناك أمر أخر في الحديث يجب أن لا يغيب عنا هو أنه يجعل الجهاد جزءا من الحياة اليومية للمسلم؛ فهو فضلا عن حضنا على الجاهزية الدائمة، يحضنا كذلك على أن نتحول إلى مجاهدين، بأن نعيش الجهاد اليومي في مختلف شؤون حياتنا، وحينها سيصير الجهاد باللسان -مثلا- سلوكا يوميا للأديب المسلم، وما دام الأمر كذلك فإن كل عمل يقوم به هذا الأديب بنية العبادة جهاد: فالمحافظة على الأدب النظيف جهاد؛ لأنه حرب على أدب الفجور والرداءة. وربط جمال الكون بالخالق سبحانه دعوة إلى التوحيد، ومن ثم فهو جهادٌ. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب المتاح الأدبي مساحةً ونوعاً جهادٌ. وتحبيب الناس في الدين، وترغيبهم فيه، جهادٌ. وتقديم المسلم كما يريده الإسلام جهادٌ. وإشاعة مكارم الأخلاق جهادٌ. وتقريب التراث من أبناء الأمة جهادٌ.
وهكذا كل عمل يقوم به الأديب المسلم بنية خدمة الإسلام والمسلمين جهاد، وعمله هذا جهاد أدبي قد لا توفيه حقه أعمال أخرى، فمن ثم كان الأدب ثغرا وجب على الأديب المسلم أن يرابط بأدبه فيه، وأن يحرص على أن لا تؤتى الأمة من قبله.
الجهاد الأدبي بناء على ما سبق رباط، ومهمة المرابط مزدوجة: فهو مطالب بأن يصد العدو، وفي الوقت نفسه أن يحافظ على مناعة الثغر وسلامته الداخلية بأن يحميه مما ينخره من الداخل فيؤثر على وظيفته الخارجية. وفي زمننا هذا صار مجردُ إنتاج الأدب النظيف وتداوله تقويةً للمناعة لدى المسلم، ومقاومةً لتيارات تحارب الإسلام والمسلمين سرا وعلانية؛ لأن أعداء الأمة مقتنعون أن الحرب الثقافية أخطر، وأن الإسلام لا يمكن محاصرته ووقف انتشاره إلا بثقافة ممسوخة، ومثقفين من بني جلدتنا يصنعون على أعين أسيادهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ويعرقلون مشاريع الإصلاح، ومحاولات إعادة الأمة إلى رشدها، وتعبيدها لربها، ويشغّبون على الصالحين المصلحين.
فماذا يفعل الإعلام الفاسد الآن بالأدب؟! يختار أردأ الروايات والمسرحيات أخلاقا وقيما، ويحولها إلى أفلام أكثر سخفا وأخطر وقعا، ثم يمطر بها أمتنا. ويحول مقالات وبحوثا سخيفة إلى برامج تزيدنا يوما عن يوم بعدا عن الله تعالى.
ويبحث لأشعار ساقطة فارغة عن شباب فارغين يغنونها، ويكثرون من المسابقات والجوائز واللقاءات والبرامج المباشرة لضمان استمرارهم وفق النهج نفسه. والحصيلة شباب لا هم له إلا شهوته، ساقط الهمة، جسد بلا روح، يلهث وراء السراب، لا حاضر له ولا مستقبل… ومن ثم كان الجهاد اللساني من واجبات الوقت، وكان على الأديب المسلم أن يدفع عن الأمة هذا البلاء، وأقل ما يجاهد به أن يحرص على استمرار الأدب النظيف، وأن يرقى بأدبه إلى مرتبة مزاحمة الأدب التافه، وإزهاقه، والأهم من هذا وذاك أن لا يخلي المكان؛ لأنه إن غاب انفرد أدب الباطل بالميدان وتَغوّل فيه.
د. الحسين زروق
——- 1- صحيح سنن أبي داود(ح.ر2504) ك. الجهاد، ب. باب كراهية ترك الغزو. وقد علق عليه الألباني بقوله: “صحيح”. 2- سورة الحجرات، الآية 9.