قال الله جلت حكمته : {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد }(16- 21)
كان المقطع الأول من السورة في عرض قضية البعث والنشور، فجاء هذا المقطع الذي هو وسط السورة وصلبها، ليعرض قضية الإنسان ومصيره عند ذلك البعث، وخلال ذلك النشور فتكشف الآيات عن أهم حقيقة من حقائق خلق هذا الإنسان، وهي أنه مهما تمرد واستعلى، إنما هو مجرد عبد!عبد مربوط إلى عقاله، مقيد من عنقه، لا يستطيع الفكاك من وثاقه، ولا الإباق من سيده أبدا فهو في قبضة ربه الذي خلقه، مقهور بقدرته، محاط بعلمه، مراقب بملائكته، محكوم بقضائه وقدره فذلك قوله جل وعلا : {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
تلك هي العبدية التي خُلق عليها الإنسان، وغفل عنها كثير من الناس، فلم يدخل تحت ربْقِ العبودية منهم إلا قليل! إن الإنسان يستطيع أن يتمرد على عبوديته -ولكل تمرد حساب- لكنه لا يستطيع أبدا أن يتمرد على عبديته، لأن العبدية ببساطة هي قضاؤه وقدره الذي خُلِق به فإنما هو عبد ضعيف، يصبح رهين عمله، ويبيت أسير أجله فإذا نفخ فيه الشيطان أوهمه أنه عملاق جبار، فيطغى في الأرض.. فإذا سقط حتف أنفه تبين له أنما ذلك كان مجرد أوهام فهذا أشد خطاب وجهه الرحمن -في هذا السياق- إلى منكري البعث والنشور، من الكفرة الفجرة. ويتكلم الرب الجليل بنفسه عن حقيقة خلق الإنسان، مسندا أفعال الربوبية وصفاتها العظمى إلى ذاته : الخلق، والعلم، والقدرة. ويجعل الإنسان واقعا تحت سلطانها، عبدا مقهورا لا يستطيع الفكاك، يتكلم الرب العظيم بنفسه، فيقشعر جلد المؤمن لكلامه ويبهت قلب الكافر لخطابه، يتلكم الرب العظيم فيحسم قضية خلق الإنسان، وأنه هو جل جلاله قد خلقه، وهو الحاكم على كل حياته ومصيره ويتوارد إسناد الأفعال -في الخلق والتقدير والعلم والتدبير- إلى الضمير المتكلم الحاضر “نا”، الدال على الذات الإلهية، لقطع كل وساوس الشك والريب في النفوس الضعيفة المريضة، ولإخناس الشيطان المتمرد في قلوب النفوس الجاحدة العنيدة، ولذلك ابتدأ هذا الخطاب القوي الرهيب بلام التوكيد، وحرف التحقيق “قد”، لنقض أمر الكفار المريج فقال تعالى : {ولقد خلقنا الإنسان….}.. هو الله الخالق جل جلاله يتكلم فمن ذا قدير على رد كلامه؟ ومن يستطيع إنشاء قصة خلق الإنسان من غير حقائق القرآن المجيد؟ إذن يتهافت أمره المريج كما تهافت صاحب نظرية التطور القِرْدية، وأصحاب ضلالات صدفة الطبيعة. والخالق العظيم حاضر هنا بقوة، يعبر عن علمه المحيط بكل خوالج هذا الإنسان النفسية، وبما تماوج في أعماقه من وساوس وهواجس! أليس هو ربه الذي خلقه؟ فكيف يغيب عنه شيء من ذلك؟ كلا !كلا! بل هو تعالى أقرب إلى عبده من حبل وريده والوريد هو : شريان القلب النابض بالدم في عنق الإنسان وكفى بذلك دلالة على إحكام القبضة على هذا المخلوق الضعيف فمصير حياته كلها بيد الرحمن. وقد جعل سبحانه -بمقتضى حكمته التدبيرية وإرادته التكوينية- على الإنسان ملكَيْن موكلين بتوثيق كل أقواله وأفعاله، وإحصاء جميع تصرفاته في الخير والشر فكل منهما يتلقى عن الإنسان كل شيء حتى اللفظة العابرة اللاغية وما التوثيق الملائكي إلا ليكون الكتاب شاهدا على ابن آدم يوم القيامة. أما الرب العظيم فهو أعلم بالسر وأخفى. والتعبير بفعل “التَّلقي” ووصف الملكين به بصيغة اسم الفاعل : “المتلقيان”، دال على شدة الرصد، وقوة التمكن من مهمتهما، لأن تلقي الشيء لا يكون إلا باستجماع الطاقة كلها والانتباه الشديد. ومفعول التلقي هنا محذوف لدلالة السياق عليه، وهو أقوال الإنسان وأعماله.
كما أن التعبير بصفة “قعيد” فيه دلالة على دوام القعود والملابسة. وأصل “قعيد” هو بمعني “قاعد”، كعليم وقدير، على وزن “فعيل” مبالغة من “فاعل”. وقيل : بل هو بمعنى “مُقاعد”، كما قيل للمُجالس : جليس. وكلا المعنيين دال على الملازمة الثابتة والمصاحبة الدائمة وقد روى الإمام الطبري عن غير واحد من السلف منهم مجاهد، وقتادة، والحسن، أن مَلَك اليمين يكتب الحسنات، بينما ملَك الشمال يكتب السيئات!(1) فما يلفظ الإنسان من قول، وما ينطق بكلمة من خير أو شر، إلا ويلتقطها الملَكُ فيسجلها في صحيفته، إما له وإما عليه وعبَّر في الآية بلفظ “القول” دون ذكر “الفعل”، من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأن الكاتب لا يشذ عن توثيقه لفظ واحد يخرج من فم ابن آدم، هو أقدر على توثيق تصرفات الأفعال والأعمال. وقد وصف الله الملَكَ الكاتب -سواء الذي عن اليمين أو الذي عن الشمال- بأنه {رقيب عتيد} أي أنه شديد الرقابة على الإنسان المكلف به، دائم الترصد لكل أقواله وأفعاله. ثم هو {عتيد} أي : أنه مُعَدٌّ لتلك المهمة، مفرَّغ لها تماما، حاضر عند صاحبه لا يفارقه قوي على وظيفته، سريع التنفيذ لعمله. ثم بين الرحمن جل جلاله غاية هذه الرقابة الشديدة ومآل هذا التوثيق الرهيب، بذكر الأجل المحتوم الذي تنتهي إليه حياة الإنسان، عند فناء عمره المحدود على وجه هذه الأرض، ثم دخوله في مراحل أخرى من عالم الموت! قال تعالى : {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} إنها السكرة التي لا بد لكل إنسان أن يذوقها، وهي الغمرة التي لا بد لكل ابن آدم أن يغرق فيها، لحظات قد تطول وقد تقصر، تقبض الملائكة خلالها روحه، فتنطلق بها إلى مستودعها من عالم البرزخ الأخروي، ثم يوارى جثمانه الميت تحت التراب.. وتنتهي قصة الحياة الدنيا -بخيرها وشرها- إلى الأبد. الموت .. ذلك هو الحق الذي لا يستطيع بشر أن يجحده، ولا أن يدفعه ولا أن يحيد عنه أو يتجنب الوقوع فيه، الموت هو الحقيقة اليقينية الكبرى، التي تفرض نفسها كرها على البشرية جميعها، بشتى مِلَلِها ونِحَلها.. إنها القَدَر الذي لا يُدفع بطب أو حذر. وتبقى البشرية في عالم الموت -بعد هلاك جميع الخلق- ما شاء الله لها أن تبقى. . حتى إذا أذن الرب العظيم بيوم البعث، نفخ الملَكُ في الصور -وهو بوق على هيئة القَرْنِ- فتتدفق الأرواح من برزخها نحو مقابرها، فتسكن أجسادها، بعد أن يكون الرحمن قد أنبتها من الأرض مرة أخرى وما هي إلا لحظة أقل من لمحة البصر، حتى تكون الخلائق حية صاحية، تسمع وترى ! وتنطلق الجموع مندفعة -بقلوب وجلة- نحو ساحة الحشر العظيم ثم يدخل الإنسان بذلك في مرحلة من أشد مراحل اليوم الآخر قال جل جلاله : {ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} والتعبير بصيغة الماضي في فعل “نُفِخَ” هو للدلالة على قطعية التحقق، وعلى اقتراب الموعد، بما يكاد يجعله في حكم الماضي حتى إذا وقع أدرك الناس أنه يومُ تحقق الوعيد الذي كانوا يوعدون، وأنه تصديق خبر النذير الذي ورد على ألسنة الرسل والأنبياء… ثم تنطلق كل نفس إلى خالقها معها مَلَكان : مَلَك يسوقها إلى ساحة الحشر، وملَك آخر يشهد بما كان من عملها عند الرحمن.
فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
——–
1- ن. تفسير الطبري للآية.