هناك رجالٌ غيّروا التاريخ، وآخرون لوثوا التاريخ، وهناك عباقرة أضاؤوا القرون وأطلعوا الشموس، وأزالوا الظلمات، وآخرون عُمي البصائر، يتعثرون أرجلاً وعقولاً في ظلمات بعضها فوق بعض ليحجبوا الأنوار، ويمنعوا الضياء. وتغيير التاريخ والتأثير في القرون ليس بالأمر الهين، ولا بالعمل السهل، قد يكون أرجى منه إزالة الجبال، وإزاحة الرواسي، لأنه صناعة للمجد، وبناء للأمم، وعزة للشعوب، وتأثيث للحضارة، وبعث للهوية، وإحياء للعزائم والثقافات، وإثارة للأفكار، وإطلاق للعقول: وصدق من قال: وكابدوا المجد حتى ملّ أكثرهم وعانق المجد من أوفى ومن صبرا لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغَ المجدَ حتى تلعقَ الصبرا والحق سبحانه وتعالى يربط النجاح بالصبر {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا}(آل عمران:200)، {وجعلنا منهم أئمَّة يهدون بأمرنا لما صبروا}(السجدة:24)، يقول عمر بن عبدالعزيز: إن لي نفساً تواقة تمنت الإمارة فنالتها، وتمنت الخلافة فنالتها، وأنا الآن أتوق إلى الجنة وأرجو أن أنالها، والنجاح طموح وجد وعمل. وقل من جد في أمر يحاوله واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر ومن عجيب أن المصلحين في الشرق قد يظلون مغمورين، أو مجهولين، أو مُطاردين، أو تشرف بهم أعماق السجون، وبطون المعتقلات، ويُنعتون بأقذع النعوت، ويُوصمون بأعظم التُّهم لأنهم بدؤوا غرباء، وجاهدوا غرباء، وخاضوا عباب الحوادث غير هيابين ولا وجلين إلى أن تحركت العقول لتفهم، وانقشعت الغشاوة عن الأبصار لتعي، واهتزت السواعد لتعمل، وتململت العزائم لتنطلق، وبحثت الجماهير عن مصادر الإشعاع لتستضيء، وسعت إلى منابع الهداية لترتوي، فإما أن تجد المصلح مازال على قيد الحياة، وإما أن تجده قد ودعها، وسكن بطون القرون، واستراح في سجل الخالدين، ولكنه وإن انقضى جسداً فقد عاش فكراً، وإن مات طعاماً وشراباً فقد عاش روحاً وقدوةً، واستقر في ذاكرة الجماهير يدفعها إلى منهجه، ويحدوها بفكره، ويقودها برسالته.
ولقد أعجبني في هذه الأيام وعلى بداية الألفية الثالثة، أن يذكر بعض المفكرين الرجال الذين أثروا في القرن، وأيقظوا فيه الهمم، وبعثوا فيه العزائم، ووضعوا بصماتهم على جبهته، فكتب -مثلاً- كثير من الباحثين وجملة من الصحفيين، ومنهم الكاتب الصحفي صلاح منتصر مقالاً بعنوان ((الداعية الذي غيّر القرن العشرين))، فقال: ((لو كان هناك عشرة من العرب غيّروا القرن العشرين لكان حسن البنا في مقدمتهم، لقد رحل حسن البنا عن الدنيا وهو في الثانية والأربعين من عمره، وهي سن صغيرة جداً بالنسبة إلى ما حققه، فلقد استمر تأثيره بعد موته طويلاً، وأقوى مما كان، لقد كان في تأسيسه جماعة الإخوان المسلمين العملاقة يمثل أسطورة في التنظيم والتخطيط والتربية، ثم قامت تتشبه بها حركات أخرى كثيرة، منها الذي سلك طريق الدعوة بالموعظة الحسنة، ومنها الذي استبد به الحماس)).
والأمر الذي لا يمكن تجاوزه، هو تلك اليقظة الإسلامية التي تسببت في تحرير بلاد الشرق، حيث قاتل الإخوان اليهود في فلسطين، ولو خُليَّ بينهم وبين اليهود لكان للمنطقة اليوم شأن آخر، وقاتلوا الإنجليز في القناة حتى استعدوا للخروج من مصر، وامتد تأثيرهم فكان تحرير الجزائر من الفرنسيين، وتحرير ليبيا من الطليان، وسرى في الجسد المسلم روح الجهاد، وطالبت الجماهير برجوع الهوية والاتصال بالمجد السالف، والتاريخ المجيد، وما أظن أن الكفاح الشامل العنيد الذي كان في أفغانستان مع الروس، والذي جاء بعده في بقاع كثيرة رغم قسوته ومواجهته للرياح العاتية إلا امتداداً لعبق الإيمان، وارتشافاً من رحيق الدعوة المباركة، لقد كان حسن البنا – يرحمه الله- أمة وحده، صاح في الناس أفراداً وجماعات، إسراراً وإعلاناً، ليلاً ونهاراً، في المساجد، والنوادي، والمقاهي، وفي كل تجمع ومناسبة يطوف القرى والنجوع والحواضر والبوادي، راكباً أو راجلاً، صيفاً أو شتاءً، لا يكل ولا يمل، حتى أطلع شمس الشريعة، وفلق إصباح الأمة، وما كان لقوى الباطل أن تسكت على هذا الرجل، أو تصبر على هذه اليقظة، فحيكت مؤامرة لاغتياله، وحرضت القوى الأجنبية على قتله، وقامت الأيدي القذرة في الداخل بتنفيذ الجريمة البشعة لإسكات صوته، وخنق دعوته. كان الإمام البنا -يرحمه الله- يعرف وعورة الطريق، ويقدر عظم التبعة، ولم يكتمها عن صحبه، ولا عن الناس، وإنما أعلنها ليأخذ كل أهبته، فقال يرحمه الله: ((أحب أن أصارحكم أن دعوتكم مازالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيراً من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، وأما الآن فمازلتم مجهولين ومازلتم تمهدون للدعوة وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد، سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام، وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء، وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم.
وسيتذرع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة، والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال، وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يُظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدّين بأموالهم ونفوذهم: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاَّ أن يتمَّ نوره ولو كره الكافرون}(التوبة:32)، وستدخلون بذلك ولاشك في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم، وتُعطل أعمالكم، وتُفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان: { ألم أحسب النَّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يفتنون}(العنكبوت:2)، ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين، ومثوبة العاملين المحسنين؛ {يا أيها َّالذين آمنوا هل أدلَكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم}(الصف : 10)، {فأيَّدنا َّالذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}(الصف : 14)، فهل أنتم مُصرون على أن تكونوا أنصار الله؟ عجيب هذا الرجل في علمه بالتاريخ وبالدعوات الإصلاحية، وعجيب في فراسته ومصارحته وتبصرته لأصحابه، وعجيب في فهمه لواقع الأمة، ولكنه ليس بعجيب أن يكون مُغيِّر القرن العشرين، وإذا لم يكن هو فمن يكون؟ من يكون؟!
د. توفيق الواعي