التوظيف المقاصدي في القضايا الطبية الراهنة البصمة الوراثية والإنجاب الاصطناعي2


أ- البصمة  الوراثية :

إذا جاوزنا هذا الإنجاز الطبي إلى إنجاز آخر أكثر جدلا وخطراً وهو ما يعرف بالبصمة الوراثية فإنها بالرغم من كونها وسيلة من وسائل الإثبات الموثوق بها علميا فيما يقال ويعتمد عليها في جرائم القتل لاكتشاف الجاني ومعاقبته مما يعتبر مساهمة في حفظ النفس فإن اعتمادها في إثبات النسب ونفيه فإنه يعد انقلابا على الشريعة الإسلامية ومعاكسة لمقصد من مقاصدها الضرورية الخمسة التي أجمعت كل الشرائع على حفظها والمحافظة عليها وهو النسب لأن اعتمادها يؤدي إلى الاعتراف بأبناء السِفاح وإلحاقهم بنسب المسافحين، ونفي أبناء النكاح وحرمانهم من نسبهم الذي اكتسبوه بولادتهم على فراش الزوجية بقوة الشرع. وذلك محادة لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضائه وقضاء الخلفاء الراشدين من بعده ومذهب الصحابة وإجماع الأمة كما هو مخالف لمقاصد الشريعة ونصوصها والقواعد الأصولية والفقهية التي نوجزها فيما يلي :

أما بالنسبة لنفي نسب من ولدوا على فراش الزوجية فيَرَدُّه :

1- آية اللعان فإنها تدل على أن الوسيلة الوحيدة لنفي الولد هو اللعان واللعان وحده.

2- حديث الولد للفراش فإنه يدل بعمومه على أن كل ولد لاحق بصاحب الفراش.

3- قضاؤه صلى الله عليه وسلم في ولد ابن زمعة وإلحاقه بصاحب الفراش زمعة، ولم يعرضه على القافة خبرة ذلك العصر.

4- قضاء عثمان رضي الله عنه في ولد اعترف أبواه أنه ولد من زنا ألحقه بالزوج وحدها.

5- قضاء عمر في و لد عرض على القافة فقال القائف : النطفة لفلان والفراش لفلان فقال عمر صدقت، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالفراش.

6- قول ابن عباس رضي الله عنه : إذا زنت الزوجة لا يمنع الزوج من وطئها وما حصل من ولد منه أو من غيره فيلحق بنسبه به.

7- الإجماع الذي حكاه غير واحد على لحوق الولد بالزوج إذا ولد بعد مضي أقل مدة الحمل.

وأما بالنسبة لمن ولدوا خارج مؤسسة الزوجية فإن إلحاقهم بنسب بالزناة بدعوى تخلقهم من نطفهم فإنه يرده.

1- الحديث السابق : “وللعاهر الحجر” هكذا بصيغة العموم والحصر المفيدة أن كل عاهر ليس له إلا الحجر وهو كناية عن الحرمان من الولد.

2- حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قام رجل فقال : يا رسول الله إن فلانا ابني عاهرت بأمه في الجاهلية، فقال صلى الله عليه وسلم : “لا دعوة في الإسلام ذهب أمر الجاهلية الوالد للفراش وللعاهر الحجر”.

والحديث بصيغته العامة “لا دعوة في الإسلام ذهب أمر الجاهلية” يشكل إعلانا بميلاد عهد جديد لا مكان فيه للعهارة وأبناء العهارة وإيطال لما كان عليه أهل الجاهلية من إلحاق أبناء الزنا واستلحاقهم.

3- حديث ابن عباس : “لا مساعاة في الإسلام، من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته، ومن ادعى ولدا من غير رشدة فلا يرث ولا يورث”.

4- حديث : “أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث”.

5- حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال : إن لي ابنا من أم فلانة من زنا فقال رقسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحك إنه لا عهر في الإسلام؛ الولد للفراش وللعاهر الائلب<.

6- إجماع العلماء على “أن ولد الزنا لا يلحق بالزاني ولا يستلحقه كما قال ابن عبد البر.

7- وهو الأخطر والأشر أن اعتماد البصمة الوراثية في إثبات النسب يؤدي إلى انتشار الفساد وفتح باب الفجور على مصراعيه لأنه ما من زانية تحبل من الزنا إلا وفي إمكانها رفع الدعوى على من أحبلها وهي متأكدة وواثقة من أن نتائج الخبرة ستكون لصالحها وتوكد صحة دعواها وتحقق لها مكاسب لم تكن تحلم بها في حالة ادعاء الزوجية أو الخطوية تتمثل في :

نفي التهمة عنها وتبييض سيرتها -ونجاتها من عقوبة الزنا- والظفر بزوج يعز الحصول عليه في مجتمع يفوق فيه عدد العوانس سبعة ملايين وفي وسط يتسم رجاله وشبابه بالعزوف عن الزواج والاكتفاء بالحرام.

وبعد هذا تأمين فضيحة حملها وضمان إلحاقه بأب معروف والاعتراف له بنسب ثابت يتمتع معه بجميع الحقوق الواجبة للأبناء على الآباء، وحمايته مما كان يهدده من التشرد والعار الدائم إن لم تسرع إليه الأيدي الآثمة بالخنق والشنق والرمي في الأزقة والشوارع وقمامة الأزبال كما يقع كثيرا.

هذه المكاسب وغيرها التي تحققها البصمة الوراثية للزانية وأولادها من شأنها أن تشجع على الزنا وتفريخ أبناء الزنا وتفتح أبواب الفساد على مصراعيه لممارسته في أمن وأمان ودون خوف ولا لوم، كما أنها من شأنها أن تغري بعض العفيفات وتدفعهن إلى تجربة حظهن والمغامرة بشرفهن مادامت المغامرة محمودة العواقب مضمونة النتائج بقوة القانون وسلطة القضاء وفي ذلك خطر خطير على الأمة في دينها وأخلاقها وأعراضها وأنسابها.

ب- الإنجاب الاصطناعي :

نتجاوز هذا الموضوع وهذا الإنجاز إلى موضوع آخر وإنجاز آخر هو الإنجاب الاصطناعي لنرى التباين الواضح بين مقاصد الشريعة الإسلامية ومبادئها وبين منجزات الطب الحديث وإكتشافاته.

فالإنجاب في حد ذاته يصب في هدف من أهداف الشريعة الإسلامية ويساهم في تحقيق مقصد من مقاصدها من النكاح وهو التوالد والتناسل الذي حض عليه الإسلام ودعا إليه ورغب فيه واعتبره نعمة من نعم الله على الإنسانية للمحافظة على جنس البشرية وسماه الله تعالى في القرآن هبة في قوله : {يهب لمن يشاء إناثا} الآية، وحدثا يستحق التبشير به في قوله {وبشرناه بإسحاق} {يا زكرياء إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح} وامتن به على عباده في قوله {واذكروا إذ انتم قليل فكثركم} وغير ذلك من الآيات والأحاديث وبالرغم من هذا الحث على التناسل والتوالد فإن الله لم يشرع له سبيلا واحدا فقط هو النكاح الشرعي في قوله تعالى {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة}.

لكن الطب الحديث توسع في وسائل الإنجاب توسعا كبيرا وذهب بعيدا في اكتشافاته غير مكترث بالدين والأخلاق واستحدث ما يعرف ببنوك النطف وبنوك البويضات والأجنة المجمدة والأرحام المضيفة أو المستاجرة وأطفال الأنابيب والاستنساخ وغير ذلك وهي وسائل يعتبرها الطب الحديث إنجازا كبيرا يعتز به، وهي في المنظور الإسلامي والرأي الفقهي وسائل محرمة مخالفة للشريعة الإسلامية التي تحرم كشف العورات والنظر إليها ومسها من أجنبي وتحرم الاستمناء وعزل البويضات النسائية وإفساد النطف وإتلاف العلقة، وإدخال مني أجنبي وبويضة أجنبية إلى رحم أجنبية وهذه العمليات وتلك الوسائل لا تخلو من هذه المحرمات والمحظورات، والمؤدي إلى الحرام حرام ولأن التوالد مجرد مندوب ومن القواعد أنه لا يجوز ارتكاب محرم لتحقيق مندوب أو مباح، ولقاعدة “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح” وأن الحظر مقدم على الإباحة والمصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية.

——-

(*) هذا الموضوع المنشور في حلقتين شارك به فضيلة العلامة الدكتور محمد التاويل في اليومين الدراسيين اللذين نظمهما ماستر مقاصد الشريعة الاسلامية عند مالكية الغرب الاسلامي بين النظرية والتطبيق بكلية الآداب والعلوم الانسانية سايس فاس وذلك تكريما  لفضيلته، وذلك يومي 18- 19 جمادى الثانية 1433هـ. ينظر تقرير اليومين بجريدة المحجة عدد 380.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>