زراعة الأعضاء البشرية 1
في البداية وحتى لا يقال إن الإسلام أو الفقه بصفة خاصة يقف في وجه الطب ويعرقل تقدمه كلما انتقد عملا من أعماله نبادر إلى القول : إن الاجتهادات الطبية وتقدمها مرحبٌ بها شرعا ترحيبا حارا ومرغب فيها إلى حد كبير ومشكور عليها، وكل الاكتشافات في هذا المجال تعد تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم : ((لكل داء دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلا الموت)). ولا اعتراض عليها مادامت تحترم مقاصد الشريعة الإسلامية السمحة ومبادئها السامية وأخلاقياتها النبيلة، ولا تنتهك حرمتها أو تتجاوز حدودها وتتجاهل أحكامها وتضعها أمام الأمر الواقع ثم تطالبها بالاعتراف بها وإعلان شرعيتها، وإلا كان من حق الشريعة وواجبها أن تستنكر كل كشاف ينتهك حرمتها ويخترق حدودها لأن الشريعة جاءت لتقود ولا تقاد وتُتَّبَع ولا تَتَّبِع، كما قال تعالى : {ثم جعلناك على شريعة فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون}، ولأن كل الدول تحمي حدودها ودساترها وتعاقب من ينتهكها بأقسى العقوبات، فلماذا الشريعة الإسلامية وحدها تستباح حدودها وينتهك دستورها ثم يطلب منها الصمت والسكوت ولا يسمح لها بالدفاع عن نفسها وإعلان رأيها في القضايا التي تعاكسها؟!
في هذا الإطار وعلى ضوء هذه المبادئ نطرح للمناقشة بعض القضايا الطبية الراهنة التي أثارت وما تزال تثير جدلا واسعا ونقاشا حادا وانقساما في الرأي في أوساط العلماء ورجال الدين وآخرين بين مرحب ومستنكر لنرى مدى احترامها أو انتهاكها لمقاصد الشريعة ومبادئها قبل الحكم لها أو عليها بالجواز أو المنع.
وكنموذج لذلك نأخذ :
أولا- زراعة الأعضاء البشرية التي لا ينكر أحد أنها إنجاز علمي باهر يساهم في النهاية في خدمة مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية الكبرى والضرورية وهو المحافظة على النفس البشرية من الهلاك وإنقاذ المريض من براثن الموت وتمكينه من الحياة والعيش مما دعا البعض إلى الترحيب بها والتشجيع عليها والمبادرة لإعلان التبرع بأعضائه والدعوة للاقتداء به، لكن الوصول إلى هذه النتيجة في حال نجاح العملية محفوف بكثير من المحظورات وخرق لعدة إجماعات ومخالفة كثير من الأحاديث النبوية والقواعد الأصولية التي نجملها فيما يلي :
1- أن تبرع الإنسان بأعضائه في حياته أو الوصية بها لا يجوز لأن الإنسان في منظور الإسلام بروحه وجسده وجميع أعضائه ملك لله تعالى الذي خلقه وصوره، والإنسان لا يملك شيئا من جسده وأعضائه ولكنه مؤتمن عليها مسؤول عن حفظها ممنوع من التصرف فيها إلا في حدود المأذون له فيه شرعا، ومن لا يملك الشيء لا يحق له التبرع به أو الوصية به لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
2- أنه مخالف للإجماع الذي حكاه ابن عبد البر على أنه لا يجوز قطع عضو من أعضاء بني آدم إلا في حد أو قصاص.
3- أنه مخالف لاتفاق الفقهاء على أن من قال لغيره اقتلني أو اقطع يدى أو افقأ عيني أنه لا يجوز له فعل ما أمره به وأذن له فيه لأنه أذن فيما لا يملك.
4- أن استئصال العضو من الحي في حياته يمكن أن يؤدي إلى ترك الصلاة أو ترك ركن من أركانها أو شرط من شروطها لغير عذر ولا ضرورة، وهو كبيرة من الكبائر لا ينبغي تجاهلها والاستخفاف بها لعلاج مريض كما تدل على ذلك القواعد:
قاعدة المحافظة على الأديان مقدمة على المحافظة على الأبدان.
قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
قاعدة أنه لا يجوز ترك واجب أو ارتكاب حرام لتحقيق مباح أو مندوب.
قاعدة أن ما يؤدي إلى الحرام حرام.
5- أن المتبرع بعضوه لا ضرورة تدعوه إلى التبرع بعضوه أو الوصية به لأن الضرورة حالة قائمة بالمريض، والضرورات إنما تبيح المحظورات للمضطر وحده كما يفيده قوله تعالى {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}.
6- أن الضرورة لا تبيح التبرع بالأعضاء، وقد نص الفقهاء أنه لا يجوز في وقت المجاعة أن يتبرع الإنسان بقطعة من جسده لمضطر جائع لا يجد ما يسد رمقه إلا تلك القطعة من لحم غيره. وإذا كان لا يجوز قطع بعض جسده لإطعام غيره وانقاذ حياته فإنه لا يجوز له إعطاء عضو من أعضائه لعلاج مريض من باب أولى وأحرى لأن الإنقاذ بالإطعام محقق النجاح بخلاف الإنقاذ له بإعطاء العضو فإنه مهما بلغت نسبة النجاح فيه فلن تبلغ درجة اليقين ولن تبلغ درجة الأكل.
7- أنه مخالف لما نص عليه الفقهاء الأقدمون من أنه لا يجوز التداوي أو الانتفاع بأي جزء من أجزاء الآدمي لكراهته أو نجاسته على خلاف بينهم في تعليل ذلك بعد اتفاقهم على منعه.
8- أنه مخالف لحديث (لا ضرر ولا ضرار) وهو حديث عام شامل للضرر اليسير والكثير، والضرر العاجل والمستقبل، والحديث وإن كان لفظه لفظ الخبر فإن معناه النهي، والنهي يدل على التحريم، ولاشك أن المتبرع يلاقي ضررا حين استئصال عضوه وبعده، ومن يشك في ذلك فليستمع إلى ضحايا المتبرعين بأعضائهم كيف يعيشون وماذا يعانون من آلام وما يبثون من زفرات التحسر والندم على ما فعلوا.
9- أنه مخالف لحديث كسر عظم الميت ككسره حيا وفي رواية في الإثم، فإنه يدل على تحريم كسر عظم الحي والميت معا، والحي أحق بهذا الحكم لأن المشبه به أقوى من المشبه في وجه الشبه، وقطع اللحم ملحق بكسر العظم ومقيس عليه.
10- أن قاعدة سد الذرائع واعتبار المآلات تقتضي منع ذلك لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى انتشار التجارة في الأعضاء البشرية عاجلا أو آجلا، وما يتبع ذلك من سرقة الأعضاء واختطاف الأطفال التي بدأت بوادرها تطفو على السطح في أنحاء العالم.
11- أن أخذ العضو من الميت إن كان بوصيته فوصيته باطلة لأنها وصية من لا يملك ما أوصى به، وإن كان بإذن الورثة فالورثة لا يرثون جثة الميت وإن كان بإذن الحاكم فمسؤولية الحاكم حماية موتى المسلمين من عبث العابثين لا التمثيل بجثثهم، وأيضا إن أخذ منه بعد موته الحقيقي فإنه لا يبقى صالحا للزراعة، وإن أخذ منه قبل ذلك وبعد موت دماغه فذلك جريمة قتل لأن موت الدماغ لا يعتبر موتا شرعيا، لأسباب منها :
- أولا إن كلمة الموت وردت في القرآن في أكثر من آية وفي السنة في أكثر من حديث ومعناه معروف عند العرب وهو خروج الروح من الجسد ومفارقتها فيجب حمله عليه وتفسيره به لأن ألفاظ القرآن والسنة يجب حملها على المعنى المعروف عند نزولها، ولا يصح تفسيره بموت الدماغ لأن العرب لا تعرفه وتفسيره به يؤدي إلى الخطاب بما لا يفهم والتكليف بما لا يعلم
-وثانيا فإن الموت سبب شرعي لكثير من الأحكام تتعلق بالميت نفسه وزوجته وماله، ومن القواعد الأصولية لابد أن يكون السبب وصفا ظاهرا يمكن معرفته والإطلاع عليه بيسر وسهولة من طرف العامة الذين جاءت الشريعة لهم لأن السبب علامة تعرف المكلف بالحكم الذي كلف به، فهو أداة تعريف وإشهار لا يمكن أن يكون خفيا لأنه لا يفيد حينئذ، وموت الدماغ من أخفى الخفايا لَمْ يتوصل الطب إليه إلا حديثا ويحتاج لمعرفته إلى آلات دقيقة وخبرات طبية عالية وفحوص متكررة فلا يمكن ربط أحكام الوفاة به ولا تعليقها عليه لغموضه وخفائه الشديدين.
وأخيرا فإن الغاية لا تبرر الوسيلة فإذا كان إنقاذ مريض عملا مشروعا فإن الوسائل المؤدية إلى ذلك ممنوعة فلا يجوز ارتكابها لعمل جائز أو مندوب.
-يتبع-