عن المغيرة بن شعبة ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ومنعاً وهات ووأد البنات وكَــَِرهَ لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال<(1). وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال<(2).
مقدمة : في الحديثين الشريفين إخبار من الحبيب صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى حرم علينا أشياء وكره لنا أشياء ورضي لنا أشياء، مما يفيد أن أفعال الإنسان كلها خاضعة لحكم الله تعالى تحريما وكراهة ورضا، والمؤمن ينبغي أن يتحرى التطابق مع حكم الله تعالى على أفراد حركة المجتمع حكماً يعلم أنه الحق وسلوكاً يعتقد أنه الرشاد والاستقامة. فمن خلال تبنّـيه حكم الله على الأشياء يحكم على المجتمع. إن المؤمن لا يرضى أن يأتي ما حرم الله فيكون عاصياً على علم، ولا أن يأتي ما كره الله فيحرم من رضوانه…… ومن خلال مطابقة سلوكه لحكم الله تعالى يعطي للمجتمع النموذج الصالح ويكون فيه قدوة يُـحتذى إن المؤمن لا يرضى أن ينظر إلى المجتمع بغير عين الله تعالى، وأولى من ذلك أنه لا يرضى أن ينظر إلى نفسه بغير عين الله تعالى. إن رضى الله تعالى على أفعال الناس يقتضي رضاه على فاعليها -مع مراعاة شروط الفعل- ففي هذا الإخبار دعوة لتحري رضوان الله تعالى وتفادي سخطه. بعض فوائد الحديث : إن مقارنة الحديثين تبيِّـن: > أن الجزء الأخير منهما يتكرر بالحرف وهو قول الحبيب صلى الله عليه وسلم : “ويكره(3) لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال”. وكأن الجزء الأول من الحديث الأول يتضمن بياناً للجزء الأول من الحديث الثاني قوله صلى الله عليه وسلم : “إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ومنعاً وهات ووأد البنات” فيه بيان لقوله صلى الله عليه وسلم : “فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”. كما في قوله تعالى : {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض}(البقرة : 249) مع قوله تعالى : {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً}(الحج : 38). فتكرُّر الجزء الأول في الآيتين يوحي بأن الجزء الثاني من الآية الثانية بيان للجزء الثاني من الآية الأولى. وعلى هذا القياس يكون الجزء الثاني من الحديث الثاني بياناً للجزء الثاني من الحديث الأول. > في الحديث محرمات ثلاثة:
1-عقوق الأمهات : هناك حق الله الكريم الوارد في الحديث الثاني :” أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً” لأنه هو الموجد والمنعم سبحانه : {وما بكم من نعمة فمن الله}(النحل : 53). ويأتي بعد حق الله تعالى -ومقترناً به- حق الوالدين قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً}(الإسراء : 23). وعند ذكر حق الوالدين يأتي التنصيص على حق الأم اهتماماً بها كما في قوله تعالى : {ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن…}(لقمان : 13). وقوله تعالى : {ووصينا الانسان بوالديه حسناً حملته أمه كرها ووضعته كرهاً}( الأحقاف : 14). وخُـصّ التنصيص على حرمة عقوق الأمهات لأنه نكران لجميل لا ينكر، فمن أنكر حق الأم وعقها لا يُـتصوّر منه أن يعترف بحق غيرها مطلقاً. فتحريم عقوق الأمهات هو في الأصل تحريم لأعلى درجات نكران الجميل. قال صلى الله عليه وسلم : >إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات<، لا شك أن فضل الأم عظيم، ولا يمكن لأحد، مهما فعل، أن يؤدي حق أمه. كان رجل يحمل امرأة على ظهره ويطوف بها البيت العتيق فلقي عبد الله بن عمر ] فقال :”من هذه؟” قال أمي، أفَـتَـراني قد وفيتها حقها؟ قال : لا، ولو بزفرة زفرتها عليك يوم ولادتك. إذا كان هذا موقع هذا الرجل من حق أمه – مع ما هو عليه من البر بها، فما حال من عقها؟. وعقوق الأم درجات، لعل أدناها أن يشاركها الطعام فتسبق عينها إلى شيء منه وتسبق يده إليه.
2- وأد البنات : أما وأد البنات فإنه دفن البنات بالحياة وهوعمل كان يأتيه أهل الجاهلية كراهة فيهنّ، ويقال إن أول من فعل ذلك هو قيس بن عاصم التميمي والسبب أن بعض أعدائه أغار عليه فأسر ابنته فاتخذها لنفسه ثم حصل بينهم صلح فخيّـر ابنته فاختارت زوجها فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حيّـة فتبعه العرب في ذلك. ويقال إن صعصعة بن ناجي التميمي جد الفرزدق هو أول من فدى الموؤودة وكان يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك بالولد فيفديه منه بمال يتفقان عليه(4). وكان من العرب فريق ثان يقتل أولاده مطلقاً إما نفاسة منه على ما ينقصه من ماله وإما من عدم ما ينفقه عليه وقد شنع القرآن على الأول بقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم}(الإسراء : 31) وعلى الفريق الثاني بقوله تعالى : {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم}(الأنعام : 151). وكانوا في صفة الوأد على طريقين: – إحداهما أن يأمر امرأته، إذا قرب وضعها، أن تطلق(5) بجانب حُـفيْـرة فإذا وضعت ذكراً أبقته وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفيرة. – والطريقة الثانية: كان الرجل منهم إذا صارت البنت سداسية(6) قال لأمها طيّـبيها وزيّـنيها لأزور بها أقاربها ثم يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر فيقول لها انظري فيها فيدفعها من خلفها.
وقد أشار القرآن الكريم إلى موضوع الوأد في مواضع أهمهـا : – قوله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودّاً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بٌشِّر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب}(النحل : 58). – وقوله تعالى : {وإذا بٌـشِّـر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسودّاً وهو كظيم أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين}( الزحرف : 17).
إن تقبيح عقوق الأمهات ووأد البنات وتحريمهما وتخصيص الأنثى بهذا الذكر فيه من العنايية الإسلامية الكريمة بالمرأة ما هو ظاهر. لكن تخصيصها بالذكر لا يعني جواز ذلك في حق الذكور، أي لا يعني أن من عق أباه أو وأد ابنه قد أتى أمراً مباحاً. وإنما خصت الأنثى بالذكرلأمور منها: – لأنه كان الغالب من فعلهم، لأن الذكور مظنة القدرة على الاكتساب والدفاع. – تنبيها على شناعة الاعتداء عليها بالعقوق والوأد لأن البنت والأم فيهما من الضعف والعطف ما يستوجب مزيداً من الرحمة. وبناء على هذا يمكن القول أن من عقّ أمه أو وأد ابنته فهو أن يعقّ أباه أو يئد ابنه أحرى. فالأم تحملت من ابنها أو ابنتها ما تحملت، حملاً ثقيلاً وأثرَه كرهاً ووضعاً وسهراً… وما كان ليخفف ذلك كله إلا الأمل. إن الأم ترى أن حياتها تتجدد بالابن، وفيه ترى كل الآمال وتضحي بكل شيء لأن ابنها يمثل لها المستقبل، وعندما يعٌـقـٌّـها فإنه يقطع أملها ويقضي على أحلامها ويحطم مستقبلها ويخيّـب كل ما أملته فيه.
والبنت شديدة الحب لأبيها فهي ترى فيه مصدر عزها وأمنها وهو مثلها الأعلى… ووأده إياها يعني أنه يخرج بها إلى الصحراء والطبيعة بعدما يأمر أمها بتزيينها.. تعتقد الصغيرة أن أباها يروّح عنها ويسلّيها ويزور بها أخوالها أو أعمامها.. وعندما يختلي بها في الصحراء فلا ترى غيره ويزداد تشبثها به وركونها إليه يئدها بلا رحمة ولا شفقة فتؤتى من مأمنها. إن هذا الصنيع يمثل أقبح وأقسى وأقصى درجات الغدر، وكل عبارات القبح تتضاءل أمام هذا السلوك. إن البنت قد تكبر وتصير امرأة صالحة وقد تكون أٌمّـاً لذرية صالحة ينفع الله بها الأمة ويستمر بها عمل والديها، فهي أمل لوالديها ولأمتها وعندما يئدها أبوها فإنه يقطع كل تلك الآمال. إن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ولكل مكان، ونصوصها -قرآناً كريماً- وسنة مطهرة – صالحة لكل زمان ومكان…وإذا ما نظرنا إلى عقوق الأمهات نجده سلوكاً شائعاً في المجتمعات بقدر ما تغيب عنه توجيهات الشرع أو تضعف. أما وأد البنات -بالطريقة التقليدية التي كانت شائعة في المجتمع الجاهلي الذي نزل فيه القرآن الكريم- فإنها غير موجودة اليوم. وإن كانت في حقيقتها موجودة إلا أنها تأخذ أشكالاً أخرى كالإجهاض وغيره.وغياب الظاهرة بشكلها التي كانت عليه في زمن نزول القرآن الكريم والتي كانت هي التفسير الوحيد لنصوص القرآن الكريم والحديث الشريف الذي تحدث عن الوأد يجعل الإنسان يتساءل عن جدوى النص عندما لا يكون له في الواقع تمثٌّـل.
والجواب أن الوحي وحي، فإذا ما نظرنا إليه باعتبار مصدره فإنه يوحى، وقد أوحى الله تعالى إلى عبده ما يوحى(7). وإذا ما نظرنا إلى علاقتنا به فإنه يوحي إلينا بأشياء كثيرة، وبقدر ما نتأمله نلمس غزارة المعاني التي لا تقف عند حـدود الحروف والجذوع اللغوية. والموضوع الذي نزل النص متحدثاً عنه وحاكماً عليه قد يغيب من حياة الناس لفترة من الزمن ويبقى النص موجوداً شاهداً وحاكما على ما كان، وجاهزاً للحكم عليه حين يكون، ولا ينقص من قدسيته ولا من قدره غياب ما نزل من أجله. بل إن النص قد ينزل ويتضمن حكماً على شيء ثم ينزل نص آخر بحكم آخر على نفس الشيء فينسخ الحكم ويبقى النص متضمناً لفوائد لا حصر له(8).
والحديث الذي نتناوله بالدرس يشير إلى موضوع الأم في علاقتها بابنها، ربما لم تقدم له مالاً ولا علماً، ولا الكثير مما ينتظره الابن عادة من أمه، لكن المؤكّـد أنها أعطت مما تملك بغير حساب، ولم تأل خيراً إلا قدمته لابنها، في المقابل علّـقت عليه آمالاً وبنت معه أحلاما ترجو أن تتحقق في المستقبل وتراها تقترب وتكبر كلما كبر ابنها. والبنت هي المستقبل وهي الأمل وقد قال الله تعالى: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيكم أقرب لكم نفعاً}(النساء : 11). والجامع بين عقوق الأمهات ووأد البنات هو القضاء على الأمل سواء الأمل الذي عٌـلِّـق عليه أو الأمل الذي كان عليه أن يعلقه على غيره. والأم قد تشير إلى الأمة فيما قدمت لأبنائها وما علقت عليهم من آمال، وعقوقهم لها يتمثل في ارتمائهم في أحضان أعدائها وانحرافهم عن مقاصدها وأهدافها، أو التقصير في خدمتها والدفاع عنها وعن قضاياها. ووأد البنات قد يشير على إجهاض كل المبادرات التي يتوخى منها أصحابها تقديم الخير للأمة والمساهمة في الرفع من قدرها سواء كانت مشاريع علمية أو إعلامية أو اجتماعية أو تنموية…
3- منع وهات : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >ومنعاً وهات” وهي عبارة معطوفة على المحرمات فتكون شريكة لها في الحكم وهو الحرمة. و”منعاً وهات” عبارة عن سلوك يمثل تبادل المنافع والأخذ والعطاء بين الفرد والمجتمع الذي يتحرك فيه. ومسألة الأخذ والعطاء تفرز لنا أربعة أصناف من الناس:
* صنف يأخذ من المجتمع عندما يحتاج ويعطي للمجتمع عندما يحتاج إليه.
* صنف لا يأخذ من أحد ولا يعطي لأحد.
* صنف يعطي للمجتمع ما يستطيع كما قال تعالى: {ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}(الحشر : 9) ويتعفف عند الحاجة كما قال تعالى: {تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً}(البقرة : 272).
* صنف يأخذ من المجتمع أقصى ما يمكن ويمنع المجتمع من أبسط الأشياء التي لا يلحقه أي ضرر بإعطائها : {ويمنعون الماعون}(الماعون : 6).
بل ويمنع غيره من العطاء : {منّاع للخير}(ق : 25). العلاقة بين عقوق الأمهات ووأد البنات من جهة وبين منع وهات من جهة أخرى أن الرجل قد يستغل حنان الأم ورحمتها فيأخذ منها أقصى ما يمكن أخذه ويمنع ابنته من حق الحياة ويمنعها تبعاً لذلك من كل الحقوق. فالحديث الشريف يشير إلى طائفة تأخذ من الأمة أقصى ما يمكن وتحرمها من أدنى الحقوق، فهم بذلك يعقون أمتهم ويئدون كل مبادرات الخير فيها. فهم، بهذا السلوك، يخيّـبون الآمال ويقطعون الآمال ويزرعون اليأس. هؤلاء أتباع عاصم بن قيس التميمي أول من سنّ الوأد فهل عقمت الأمة من أن تلد أتباع صعصعة بن ناجية التميمي الذي كان أول من سنّ الفداء؟؟ وذلك ما بيّـنته الصيغة الثانية للحديث التي تتحدث عن عبادة الله تعالى وعدم الإشراك في قوله صلى الله عليه وسلم : “فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” كتفسير لما طلب منا الشارع فعله طلبا جازما في مقابل ما طلب منا تركه طلبا جازما أيضاً. {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد}(ق : 37).
د. لخضر بوعلي
——–
1- البخاري في كتاب الأدب باب عقوق الوالدين من الكبائر.
2–رواه الإمام مسلم
3- في الرواية الأخرى “كره” بصيغة الماضي.
4- فتح الباري ج10 ص 406 شرح كتاب الأدب الباب السادس.
5- تطلق أي تلد.
6- إذا بلغت من العمر ست سنوات.
7- قال تعالى: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي}(يونس) وقال تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}(النجم : 4).
8- من هذه الفوائد: التلاوة، الشهادة على مرحلة، التنبيه إلى خاصية التدرج في الشريعة، بالإضافة إلى ما تتفاوت فيه النصوص من دلالة على قواعد فقهية…