اقتدى علماؤنا السابقون من السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان رضوان الله عليهم بمنهج نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في الترغيب والتحبيب بتعلم القرآن الكريم، واتبعوا في ذلك وسائل عديدة، رغبت في هذا المقال في عرض بعضها رجاء الانتفاع بها والسير على طريقهم في الخير والإبداع.
– التيسير على المتعلمين وتشويقهم وجذبهم بالهدايا والجوائز وإطلاق الألقاب الحسنة عليهم : فمن التيسير على الطلبة ما ورد عن نافع أنه كان يسهّل القرآن لمن قرأ عليه إلا أن يُسأل(1) أي أن يقول له الطالب: أريد قراءتك. ومن التشويق أن ابن مسعود كان يمر على طلابه، وحين يعلم أحدهم الآية يقول له: تعلمها فإنها خير لك مما بين السماء والأرض(2). ومن التشويق بالهدايا حديث عمرو بن سلمة -السابق ذكره- وفيه أنه بعد أن أمّ أصحابه وتقلصت عنه بردته قال: فاشتروا لي قميصا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص، وإن لم يكن هذا القميص -في الظاهر- هدية له، بل ليستره في الصلاة، ومع ذلك فرح به غاية الفرح، فكيف لو قدموا له زيادة عليه. ومن الهدايا أو الجوائز ما كان يقدمه عدد من الأساتذة لطلابهم من طعام أو حلوى بعد انتهاء الدرس أو أثناءه، وذلك مما يجذب الطالب إلى معلمه ويرغبه في درسه، وأذكر أني كنت أحضر وأنا فتى درسا أسبوعيا لأحد العلماء في الفقه، وسأل مرة سؤالا في الدرس، ووعد من يجيب على السؤال بهدية هي (شلن أي خمسة قروش) وكنت أصغر الحاضرين سنا وعرفت الجواب وبعد تردد أجبت فأعطاني الهدية التي عددتها قيمة جدا، وما أزال أذكر الموقف مع مرور السنين والأعوام. ومن التشويق والترغيب بتولية المناصب ما ورد أن نافع بن عبد الحارث والي مكة لعمر بن الخطاب لقي عمر، فسأله: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال استخلفت عليهم ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: رجل من موالينا، قال عمر: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله تعالى، عالم بالفرائض، قاضٍ، قال عمر: أما إن نبيكم قال: “إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين”(3). ومن الترغيب والتحبب إلى الطلبة بإطلاق الألقاب الحسنة عليهم، أن نافعا لقّب تلميذه عيسى بن مينا بقالون، وذلك لجودة قراءته، وهي كلمة رومية -وأصل قالون من الروم- تعني جيد، ولقّب تلميذه عثمان بن سعيد بورش، وقد لزمهما هذان اللقبان حتى صارا لا يُعرفان إلا بهما، وكانا يحبان أن يدعيا بلقبيهما، وكان ورش يقول: “سماني به أستاذي”(4).
- الاستعانة بالعرفاء والمساعدين: كان أبو الدرداء إذا صلى الغداة بجامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، ويجعل على كل عشرة منهم عريفا، ويقف هو قائما في المحراب يرمقهم ببصره، وبعضهم يقرأ على بعض، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفهم، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء فسأله عن ذلك، وكان ابن عامر عريفا على عشرة، وكان كبيرا فيهم، فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر، وكان عدد المشاركين في هذه الحلقات ألفا وست مئة ونيفا، وكان أبو الدرداء يطوف عليهم قائما يستفتونه في حروف القرآن5، وفعل ابن مجاهد في ما بعد كذلك حيث كان الطلبة يزدحمون عليه، فوزّعهم على حلقات، بلغ عددها ثلاث مئة حلقة، كان له خلفاء وعرفاء عليها(6). وكان نافع يستعين بتلميذه قالون في الإقراء، حيث قال له: اِجلس إلى أسطوانة حتى أرسل إليك من يقرأ(7)، وفي هذه الرواية إشارة إلى حسن اختيار موقع الإقراء، وأن يكون مكانا ظاهرا أو مكانا خاصا محددا ليعرفه الطلاب.
- الدقة في الإجازة وفي تحديد المقدارالمقروء إن لم يكن ختمة كاملة: ومما ورد فيه أن ابن الجزري أخبر أنه قرأ على شيخه ابن الجندي بمضمن كتابه البستان إلى قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}. وأخبر عن تلميذه صدقة بن سلامة أنه قرأ عليه بالعشرة إلى آخر التوبة، وقرأ ابن الجزري على ابن الطحان الفاتحة وأوائل البقرة للعشرة، واستأذنه في الإجازة فتفضل وأجاز ولم يكن له بذلك عادة، وأخبر عن ابنه أبي الفتح أنه قرأ على ابن السلار الفاتحة بالقراءات السبع وسمع عليه حتى {واركعوا مع الراكعين} بالقراءات(8).
- الإكثار من الشيوخ والأسانيد والرحلة في طلب القراءات دون كلل ولا ملل ولا فتور : وفاعلو هذا بحمد الله كثيرون، منهم ابن الجزري الذي رحل إلى بلاد كثيرة منها دمشق ومصر والحجاز وبلاد الروم ووصل سمرقند وخراسان وهرات وشيراز وبها توفي ودفن(9)، ومنهم يوسف بن جبارة الهذلي رحل من بلدته بسكرة في أقصى المغرب إلى فرغانة في أقصى المشرق، طاف البلاد في طلب القراءات، بلغ عدد من لقيهم من الشيوخ ثلاث مئة وخمسة وستين، وكان يقول: ولو أعلم أحدا تقدم عليّ في هذه الطبقة في جميع بلاد الإسلام لقصدته(10)، ويلحظ ما كان عندهم من همة عالية مع بدائية وسائل المواصلات في زمنهم.
- الاستعانة بوسائل الإيضاح وإعطاء فرصة للطالب ليصحح خطأه: حيث كان منهم من يرفع يده عند حصول الخطأ للتنبيه إليه، أو الطرق على الطاولة ونحوها، وكان ابن بضحان يشير بإصبعه إذا حصل خطأ أو يضرب على الحصير فإن أصلح الطالب نفسه وإلا أصلح له خطأه(11)، وقد يحصل الخطأ من المعلم أو من شخص ذي منزلة عاليه فيُسأل عن الخطأ الذي حصل منه بطريقة تليق به ليصحح نفسه فيه، كما حصل مع الكسائي حين تقدم ليصلي بهارون الرشيد، قال: فأعجبتني نفسي، واجتهدت في تحسين القراءة وتحبيرها، إلا أنه حصل مني سهو فأخطأت في آية لا يخطئ فيها صبي صغير، أردت أن أقرأ {لعلهم يرجعون} فقلت: (لعلهم يرجعين)، وبعد الصلاة سأله الرشيد قائلا: يا كسائي أي لغة هذه؟ وهو أسلوب لطيف من أمير المؤمنين لتنبيه الإمام إلى خطئه، فبادر الكسائي إلى الاعتراف بالخطأ قائلا: يا أمير المؤمنين قد يعثر الجواد، فاستحسن الرشيد اعترافه بالخطأ فقال: أما هذا فنعم(12)، ولو أن الكسائي حاول التهرب من الاعتراف بالخطأ وانتحال حجة باطلة لأوقع نفسه في حرج كبير. ومن وسائل الإيضاح قديما استخدام حركة الأصابع لتبيين مقادير الحركات.
- إسقاط حظ النفس والتواضع للتحصيل وأخذ العلم من أهله ولو حصل منهم جفاء أو استصغار : ومن لطيف ما يروى في هذا أن خلفاً قال: ذهبت لأقرأ على شعبة ومعي ورقة من سُليم له -أي توصية- فلما قرأ الورقة صعّد فيّ النظر وقال: أنت خلف؟ قلت: نعم، قال: أنت الذي لم تخلف ببغداد أقرأ منك؟ فسكتُّ -كأن خلفا شعر باستصغار شعبة له- ولعل الشيخ قصد تأديبه بأن لا يرى نفسه كبيرا، ولكن مجرى القصة لا يدل على هذا، فقال: اقعد هاتِ اقرأ، قلت: عليك؟ قال: نعم، قلت: لا والله لا أقرأ على من يستصغر حملة القرآن، ثم خرجت، فوجّه إلى سليم فسأله أن يردني فأبيت، ثم ندمت ثم نقلت عن تلميذه(13)، ومن العبر في هذه الحادثة: عدم التعجل في الحكم، وفضيلة الرجوع عن الخطأ، واحتمال ما قد يحصل من العلماء مما لا يحبه الطالب ولا يقبله فيتحمل ذلك ولو على مضض، وأن معلم القرآن ينبغي أن يتخلق بأخلاقه(14).
د.أحمد شكري(ü)
———-
(ü) مدير المركز الثقافي الإسلامي- الجامعة الأردنية.
1- ابن الجزري، غاية النهاية 2/133.
2- رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم 8662 (9/135)
3- رواه مسلم برقم 1934 (2/201) وابن ماجه برقم 218 (1/79).
4- ابن الجزري، غاية النهاية 1/502 و615. 5- ابن الجزري، غاية النهاية 1/606.
6- ابن الجزري، غاية النهاية 1/142.
7- ابن الجزري، غاية انهاية 1/615.
8- ابن الجزري، غاية النهاية 2/247، و1/336، و1/33، و2/251.
9- ابن الجزري، غاية النهاية 2/247-251.
10- ابن الجزري، غاية النهاية 2/397.
11- ابن الجزري، غاية النهاية 2/58.
12- الذهبي، سير أعلام النبلاء 9/133، وابن الجزري، غاية النهاية 1/538.
13- ابن الجزري، غاية النهاية 1/272. 14- يُنظر ما في كتاب: آداب أهل القرآن مع القرآن وأهله، 58.