إذا نظرنا إلى الآية 175 من سورة البقرة، والمعروفة بآية البر المختومة بشهادة الله تعالى لمن حقَّقُوا ما جاء فيها بأنهم هم الصادقون، نجد أننا تدحرجنا من قمة البناء الهَرَمي للإسلام إلى أساسه الأول وقاعدته الأولى التي نخرها سُوسُ الارتياب وسُوسُ الزندقة والإلحاد، وسوس التشويه والتحريف والجراءة على الله تعالى وشرعه وقرآنه وأنبيائه ومقدساته، حيث أصبح تجريدُه -سبحانه وتعالى- من كُلِّ فاعلية وتخصُّص هو الحضارةَ والحداثة والعولمةَ والتقدمَ، وعبادتُه والتضرعُ إليه باعتباره الفاعل المختار هو عَيْنَ التخَلُّف والتحجُّر والجمود والعيش في أوهام الأساطير والخرافات. فما هو مضمون آية البر : {ليْسَ البِرُّ أن تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشرِق والمَغْرِب ولكِن البِرُّ(1) من آمَنَ باللَهِ واليَوْمِ الآخِر والمَلاَئِكَةِ والكِتَابِ والنّبِيئين وآتَى المالَ على حُبِّهِ(2) ذَوِي القُرْبَى واليَتَامَى والمَسَاكِينَ وابْن السَّبِيلِ والسّائِلِين وفِي الرِّقَابِ(1) وأقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزّكَاةَ والمُوفُونَ بعَهْدِهِم إذَا عَاهَدُوا والصّابِرِين فِي البَأْسَاءِ والضّرّاءِ(2) وحِينَ البَأسِ(3) أُولئِك الذِين صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُون}.
تضمنت الآية الدين كله من أساسه إلى قمته، فأساسُه الإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته، والإيمان باليوم الآخر بجميع مراحله ابتداء من خروج الروح إلى القبر إلى يوم الفصل والقضاء.. وقمتُه : الصدقُ في الإىمان بكل ما ذكر، والصدق في الابتلاء والامتحان، والصدق في الوفاء بالعهود مع الله تعالى والناس، والصدق في حراسة الدين والدفاع عنه بالغالي والنفيس، لأنه لا يُوجَدُ في الكون ما هو أنْفَسُ وأغلى من الدين. هذا هو المضمون بإيجاز بسيط، أما بشيء من التفصيل فيمكن إجماله في بعض النقط التالية :
1) إن الله تعالى يُعلمنا في هذه الآية الهُدَى المنهاجيَّ في الدين الذي ضَمّنه كتابَهُ القرآن العظيم، وهذا الهدى المنهاجي يُعلّم المُسْلم فقه المقاصد أولا، وفقه الحِكَم والغايات ثانيا، وفقه الأولويات ثالثا. فذلك كله مُقَدَّم على فقه الوسائل والأشكال، فإتقان حركات الصلاة مثلا من اصطفاف، وتكبير، وركوع وسجود، وتحريك للأصابع في التشهد أو عدم تحريكها، وختامُها بـ>السلام عليكم فقط< أو زيادة >ورحمة الله< أو زيادة >وبركاته< ولكن تمَّ ذلك كله بدون خشوع، وبدون تطهير للقلب من الأدران الداخلية، وبدون محبة خالصة للمسلمين جميعا، وبدون تطهُّر من العصبيات والحزبيات.. كل ذلك يجعل الصلاة قد أدّيت شكلا، ولكنها لم تُقَم كما أرادها الله تعالى مُقَوَّمة صافية من كل اعوجاج، فهي صلاة خالية من الروح لا تتعدى رأس صاحبها، ولا تؤدي الأثر المطلوب في تغيير المجتمع والسمو به إلى ما يُرضي الله تعالى ويؤسس لحضارة الروح والقيم والعَدْل والبركة والنماء. إذن فالبر ليس في التوجه لجهة الكعبة أو بيت المقدس أو المشرق والمغرب، ولكن البر الحقيقي هو الإيمان بالله، وطاعته بإخلاص في أي وجهة وُجّهنا، إذ ذلك هو محلُّ رضاه. والجدال في الأشكال والمظاهر مضيعة للوقت، وحالقة للإيمان، وناسفة للإخلاص، هذا منهج أصيل ياليت المسلمين يجددون دينهم وإيمانهم بالرجوع إليه، فإنه سيتكفل بحلِّ كل المشاكل التي تقف عائقا دون جمع كلمة المسلمين، وجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، والأمر هنا لا يحتمل التفصيل والتوضيح وضرب الأمثلة، فاللبيبُ بالإشارة يفهم.
2) الهدى المنهاجي في القرآن أيضا هو أن العمل هو الأساس، فاقرأ ما شئت، واحفظْ ما شئت من القرآن والسنة، وتبحَّرْ ما شئت في ميادين شتى من العلوم، ولكنك إنْ لم تُتَرْجِم ذلك إلى عَمَل يعطي البرهان على صِدق العلم، وصدق القصد بتعلُّم ذلك العلم… فإن ذلك كله سرابٌ في سراب، وبوارٌ في بوار. فما ينفع الإنسان إذا كان يحفظ حديث أو أحاديث المتحابين في الله، ولوَجْه الله، وهو يُدرِّسُه ويُعلّمه للناس، ويتولى في نفس الوقت تصنيفَ المسلمين، وعزْل هذا عن هذا، وتبديعَ هذا و تكفيرَ هذا، وتزكيةَ هذا وتدنيس هذا؟!. فقد انتقل من تحبيب المحبة والترغيب فيها بين المومنين إلى مرتبة الحكم على الناس بحسب النوايا التي لا يعلمُها إلا الله تعالى… فالعَمل في الإسلام يمثل الاستسلام الخالص، والانقياد الحق بدون خلفيات ولا رواسب ولا أمراض مُدَمِّرة. وهي الميزة الكبرى التي تميز بها الصحابة رضوان الله عليهم، فكانوا خير الأجيال، بل كانوا قرآنا يمشي على الأرض، وصل إليْهم الأمر بتحويل القبلة وهم في صلاة العَصْر، فتحوَّلُوا في أثناء الصلاة. وقال الله للنساء {ولْيَضْرِبْن بخُمُرِهِن على جُيُوبِهِنّ} فوصلت إليهن وهن في الزرع أو مجاني الثمار فلم ينتظرن حتى يصلن إلى الدار، ويشترين ما يتخمّرن به، بل سارعن إلى قَطع أطراف من أثوابهن يتخمّرن بها.
3) الهدى المنهاجي في القرآن يعتمد على التدرج المتصاعد حتى يتمّ البناءُ متيناً مُحكَما، فالإيمان بالله أولا، ثم الإيمان باليوم الآخر ثانيا، ثم التكملة لأركان الإيمان، ثم الانتقال مباشرة إلى المال لأنه البرهان العملي على أن الإنسان انتقل من عبادة الدنيا إلى عبادة رب الدنيا، ومن الاعتماد على المال إلى الاعتماد على رب المال، ومن الاعتزاز بالمال إلى الاعتزاز بالله الذي هداه ومنحه حُبّ الله فوق كُلِّ حُبّ لكلِّ شيء، ثم إقامة الصلاة لله بعد أن تطهَّرت النفس من كل المحبوبات إلا حُب الله، حتى تكون الصلاة وفقةً صادقة مع الله تعالى، ثم الوفاء بالعهود، ثم الصبر في الشدائد والمحن والأزمات التي لا أثر لها في نفس المومن المحِب لله وحده، ثم الصبر في بذل النفس فداء للدين ورسالة الله للإنسان…
4) الانتقال بعد أركان الإيمان إلى المال قبل الصلاة والزكاة وجميع أنواع العبادات يدُلُّ على خطورة المال، وأنه لا عبادة صحيحة وكاملة وتامة لمن لم يتحرَّر تحرُّراً تاماً من حب الدنيا، فإن ذلك إشارة واضحة إلى أن التطهُّر من البخل والشح يعتبر أمّ جميع التزكيات، إذا حقق الفردُ المسلم، والجماعة المسلمة والدولةُ المسلمة، والحكام المسلمون، والعلماء المسلمون، والأسر المسلمة، والمسؤولون المسلمون عن جميع المؤسسات التطهُّر من داء البخل، إذا حققوا التطهر من فتنة المال سَهُل أمامهم الطريق لجميع أنواع التطهرات الأخرى. وقد كان نصب >الصابرين< بفعل محذوف تقديره >أخص< للدلالة على أن الصبر هو عُدّة كُلِّ بَذْل وتضحية وعبادة، ومعنى ذلك >وأخُصُّ الصّابِرِين بالمَدْحِ والثّنَاء< لأنه لا إيمان بدون صبر، ولا صدقة بدون صبر، ولا وفاء للعهد بدون صبر، ولا فداء للدين بالنفس بدون صبر، ولا دعوة بدون صبر، ولا صلة للأرحام بدون صبر، وهكذا فالصّبْرُ زَادُ كُلِّ عمل وكل تصفية وكل إخلاص. وماذا بعد؟
إن المجتعات المسلمة مازال فيها الكثير من المومنين بالله تعالى واليوم الآخر وباقي الأركان الأخرى، ولكنه إيمان بارد. ومازال فيها الكثير من المصلين والمزكين والصائمين والحجاج، ولكن كل ذلك أكثره شعائر تؤدَّى حركاتٍ وأشكالا خالية من حرارة الروح المؤدِّية إلى قمة الإحسان، وقمة المراقبة لله تعالى، وقمة التقوى الفرقان، وقمة التقوى المنعكسة نوراً وهداية تمسح الظلام مَسْحاً، وتستنزل المدد الربانيّ نصْراً ورحمة، ووحدة وتلاحماً، وثقة وتعاونا. فالمجتمعات الإسلامية اعتادت أن ترى المصلين والمصليات، والصائمين والصائمات والحاجين والحاجات، إلى جانب رؤية الفاسقين والفاسقات، والدّاعرين والداعرات، والبائعين شرفهم والبائعات في أسواق النخاسة المحلية والأجنبية التي بلغت بها درجة الصفاقة من جهة والإهانة من جهة أن أقْدَم أجنبيٌّ على استِئْجارَ امرأتين لتصويرهما يمارسان الجنس ليس مع الذكور من بني الإنسان، فهذا شيء معتاد، ولكن مع كَلْبه المُدَلّلِ ليأتي بفتح جديد في ميدان المسخ الفريد الذي سيُطرفُ ويُتْحِفُ به عشاق عُبّادِ الجنس. إن الخلل لم يأت مِنْ قلة المومنين والمومنات، ولكن من خمود جذوة الإيمان المُسْتَعْلِي، لإيمان المتحدي، الإيمان المقتحم، الإيمان المنهض، الإيمان الذي لا يعرف إلا الله معبوداً والجنةً داراً ومستقراً. الإيمان الذي لا يستطيع الإنسان التعبير عنه حقَّ التعبير، ولكن يذوق حلاوته في الركعة والسجدة لله، وفي ضبط لسانه لله، ويجد حلاوته في الدّعوة لله، وترغيبِ الناس في الخير والدين لله، وفي مقارعة الأهواء لله. وهذا هو ميدان التجديد الحقيقي أي تجديد الحلاوة الإيمانية في نفوس المومنين والمومنات.
نحن في حاجة إلى :
أ- أمثال سحرة فرعون، الذين قالوا له : {فَاقْضِ ما أنْتَ قَاضٍ إنّما تقْضِي هذِه الحَيَاةَ الدُّنْيا إنّا آمَنّا بربِّنا ليَغْفِر لنا خَطَايَاناَ وما أكْرَهْتَنا عَلَيْه من السِّحر واللّه خَيْرٌ وأبْقَى}(طه: 70- 71).
ب- أمثال المبايعين لمحمد في العقبة الثانية، حيث قالوا له: ماذا لنا إن نحن وفينا لك، فقال : >لكُم الجنّة< فقالوا ابْسط يدك لا نقيل ولا نستقيل.
جـ- أمثال عمير بن الحمام ] الذي قال : إنها لحياة طويلة إن أنا تأخرت عن الدخول الى الجنة حتى آكل التمرات.
د- أمثال الذي قال للرسول ما يضحك الرب من عبده؟! فقال : أن يقْتحِمَ ميدان العدو حاسر الرأس لا يتردَّدُ، ولا يضطرب، أو كما قال فأزال الخودة وتقدم يجاهد حاسر الرأس.
هـ- إلى أمثال الذي قال عندما رأى الرمح قد نفذ فيه من ظهره إلى صدره : فزت ورب الكعبة.
و- إلى أمثال الذي يصمم على الدخول إلى الجنة وإن كان معذورا، فيقول : أريد أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة.
ز- إلى أمثال الذي يقف للصلاة فيلتذ بحلاوة القرآن حتى ما يُبالي بثلاث سهامٍ أصابتْه، ومع ذلك لم يقطَعْ القراءةَ، ولم يقطع الصلاةَ إلا بعد أن خاف أن يضيِّع ثغراً من ثغور المسلمين. لأمثال هؤلاء -وغيرهم كثير- نحن في حاجة للشعور بطعم الإيمان وحلاوته، وهذا لا يتأتى إلا بعد الشعور بمقدار الشرف الذي طوقنا الله به عندما اصطفانا لنكون حملة رسالته، وحجة له على الناس، نشهد عليهم كما يشهد علينا رسول الله .
فمربِطُ الفرس بالضبط هو إنهاض القاعدين المتقاعسين جَرْياً وراء الشرف الكبير، شرفِ الدنيا والآخرة شرفِ إسعاد الناس، شرف إنقاذِ التائهين، شرفِ إرشاد الضالين، شرفِ إكرام المهانين، شرف إصلاح الاعوجاج الفكري والسلوكي، اصلاح الاعوجاج الفردي والأسري، المحلي والدولي، شرفٌ ما بعده من شرف لو وَجَد الهِمَم العالية {إنْ يعْلَمِ اللَّهُ في قُلُوبِكُم خَيْراً يُوتِكُمْ خيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(الأنفال : 70).
المفضل فلواتي – رحمه الله تعالى
—–
1- البرُّ : اسم جامع لكل خير بدون تحديد، ولهذا قال فيه لمن سأله عنه : >البِرُّ ما اطْمَأَنَّتْ إلَيْه النَّفْسُ والإثْمُ ما حَاكَ فِي الصَّدْر وخِفتَ أن يَطَّلِعَ علَيْه النّاس
2- حبّه : أي تصدَّق بالمال للمحتاجين من ذوي القربى وغيرهم رغم شدة حُبِّه للمال {وتُحِبُّون المَالَ حُبّاً جَمّاً}.
1- وفي الرقاب : تحريرها بشرائها للعتق كما كان يفعل أبو بكر ] في أيام الابتلاء بمكة، هذا هو المعنى المتبادر على حسب ما كان سائداً آنذاك في عصر الاستعباد، أما عصْر استرقاق الشعوب اليوم بالديون من صندوق النقد الدولي، وصناديق الأبناك الدولية، فهذه تحتاج إلى تحرير حقيقي يبدأ من تحرير النفوس من الشهوات والأهواء ولا تحقيق لذلك إلا بالإيمان والتخطيط المستقل عن الأنظمة المادية الجشعة.
2- البأساء والضراء : مختلف الشدائد والأزمات.
3- وحين البأس : أي وقت الحرب، لأنها وإن كانت أزمة وشدة فهي أزمة خاصة تتطلب صبرا خاصاً.