الأمن الديني للأمة..من يحميه؟ وكيف؟


لا حياة لأمة ولا عز لها من غير أمنها الضامن لاستقرارها واستمرارها، هذه مسلمة عقلية وشرعية، ولذلك انشغلت الأمم كل الأمم وعبر كل التاريخ بضمان الأمن والاستقرار وقاومت كل ما يهدد أمنها بقوة وإصرار، وأعدت لذلك العدد البشرية والمادية بكل أشكالها وأنواعها، وأنجزت الخطط النظرية والعملية بكل ألوانها وأصنافها، وتسابقت الدول في ذلك وتنافست، وتكتلت أحيانا وتحالفت من أجل تحقيق هذا المبتغى، لكون البلد الواحد كثيرا ما يعجز عن ذلك، لكن أي أمن نقصد؟ أهو الأمن بمفهومه الضيق؟ أم هو الأمن بمداه الواسع؟ وهل يقبل مفهوم الأمن التبعيض والتجزيء؟ وهل يمكن أن يتمتع الإنسان وتنعم الأمة بالأمن إن تعرضت حقوق الله للانتهاك؟ أليس كل اعتداء على حقوق الله وأمن دينه هو اعتداء على حق الإنسان في الأمن أيضا؟ ألم يقل ربنا محذرا : {أفأمنوا مكر الله فلا يامن مكر الله إلا القوم الخاسرون}(الأعراف: 98)

إن أمتنا المسلمة لم تنجح في تحقيق مطلب الأمن في تاريخها إلا حين تعاملت مع مفهوم الأمن في بعده التركيبي والشمولي الحضاري: الأمن الروحي والمادي، الفردي والجماعي، الأفقي والعمودي، الدنيوي والأخروي… غير أن أمتنا نُكبت يوم نُكبت ـ وإلى اليوم ـ عندما قصرت في التعامل مع مفهوم الأمن مرتين على الأقل: الأولى: عندما قصَرت مفهوم الأمن على أمن الإنسان وحده وأمن حقوقه وحدها، واستثنت حقوق الله وأمن دينه.والثانية عندما قصَرت مفهوم الأمن على الجانب العسكري وإخماد الفتن وإسكات الأصوات المعارضة، وضيقت من مفهوم أمن الإنسان باعتباره مفهوما عاما يشمل أمنه الروحي والجسدي، وأمنه المادي والمعنوي إلى أمن خاص بالدولة وأجهزتها الحاكمة وأمن مصالح حكامها.

ففي الحـالـة الأولى : حـالة حصر الأمـن فـي ما يخـص أمـن الإنسـان وحـده دون أمـن ديـن اللـه تـعـالى: ففي هذه الحالة أُقصي الدين من ميادين حياة الأمة وتدبير شأنها العام والخاص (سياسة واقتصادا وتعليما وإعلاما وقضاء وأسرة …) وتُركت محارم الله للاستباحة والانتهاك دون رقيب ولا حسيب، وعُرِّضت رموز الأمة الثقافية والتاريخية ومقدساتها للسخرية والاستهزاء، وانتقصت مكانة العلماء وقزمت أدوارهم وروقبت وحوصرت بل عوديت اجتهاداتهم، وصودرت نواياهم في كثير من الأحيان، ونتج عن تهديد الأمن الديني للأمة جملة أمور خطيرة، منها :

- امتهان كرامة الأمة من قبل خصومها وتشويه معالمها، وقسماتها الفكرية والدينية والمادية والبشرية والجغرافية، عن طريق الاحتلال والاستغلال، والغزو والمحو، واستنبات الطفيليات، والتمكين ماديا ومعنويا لكل ما ومن هو ضد الأمة ويخدم مصالح الخصوم أكثر من الخصوم !! وها هو المسلم اليوم يجوب ديار آبائه وأجداده يكاد يجد الديار غير الديار، والأنصار غير الأنصار، والمهاجرين غير المهاجرين، لقد تغيرت في الدار معالمها، وتغربت عماراتها ومساجدها، وتناقصت أطرافها، وعصفت ريح الفرقة والتنافس على الدنيا بأبنائها “حتى نسوا حظا مما ذكروا به”، وأبعد ورثة النبوة فيها، وكثر أدعياء وراثتها من اللقطاء والغرباء، وجيء بالشهود والعدول من خارجها يشهدون زورا وبهتانا بعدالة التقسيم والقسمة، ونزاهة التوزيع وانتقال النعمة!!!

- صناعة أجيال من رحم الأمة تقوم بوأد الأمة وكالة عن غيرها، أجيال ربيت تربية بعيدة عن عقيدة الأمة وأصول دينها، ولقنت تعليما مشبعا ـ إلى حد التخمة ـ بثقافات غيرها، ومعادية لهويتها معاداة تخرج بها عن مراعاة أصولها في القول بثقافة الحق في التعايش والسلم والحوار والمساواة في الحقوق والكرامة والعدالة.

- تخريج فئات من الأمة شاردة ماردة تصورا وتصرفا، فكرا وسلوكا، عابثة لاهية غافلة عن ذاتها جاهلة بطاقاتها، يفتك بها الاستلاب والضياع والحرمان، لا تعرف للاعتزاز بهويتها مذاقا، ولا لحلاوة الإيمان بدينها طعما، ولا تملك عن دينها علما سليما ولا فهما قويما، ولا تطبيقا كريما. أليس هذا بحق هو الحصاد المر لتجربة الضلال عن الأمن الديني تقصيرا في حقه وتغييبا له من مخططات الأمة في نهوضها وشهودها: فلله درك يا أبا الحارث المحاسبي حين كتبت إبان عز الأمة وقد بدأت بوصلتها في الانحراف منبها إلى أن الأصل هو “الرعاية لحقوق الله”، فهي الأمن الحقيقي وهي أصل كل ما عداها من الحقوق.

أما الحالة الثانية وهي حالة تضييق مفهوم الأمن وقصره فقط على الجانب العسكري وحماية الدولة ورموزها: فقد انعكس هذا النوع من الحصر سلبا على الأمة وضدا على طموحات أبنائها الخلص وقاد إلى نتائج وآفات خطيرة أيضا، منها:

- انتشار نزعة التسلح والسباق المحموم نحو الترهيب والتخويف وردع المخالف ولو كان محقا، والاستعداد للانقضاض على ممتلكات الجيران والانقلاب على ” الشرعية” القديمة اللئيمة البئيسة النحسة لإحداث “شرعية ” جديدة أشد لؤما وبؤسا ونحسا.

- تهميش كافة حقوق المسلمين الأخرى، فأمام تضييق مفهوم الأمن وحصره في أمن الدولة ورجالاتها غابت أنواع الأمن الأخرى كالأمن الروحي والفكري والتعليمي والعلمي والصحي والغذائي والاقتصادي والسياسي والقضائي…، باعتبارها من أمهات أنواع الأمن التي بكفالتها ورعايتها تبني الأمة رجالها وتستفيد من طاقاتها وتستثمر رأسمالها البشري أحسن استثمار. فبسبب هذا التهميش والتضييق ترسخت نزعة الاستبداد، في النفوس والمؤسسات والهيئات لا فرق في ذلك بين خاص وعام، واستشرت غريزة الانتقام بين أبناء البلد وإخوة الدار، ولم يتنافسوا إلا في الإنفاق في تحصين أنفسهم، والتجسس على أبنائهم وإخوانهم، ورهن البلاد والعباد وإغراقها في التبعية والمديونية.

وبسبب هذا التضييق أيضا انتشرت كل مظاهر التشوه العقدي، والفساد السياسي، والنفاق الفكري، والانحراف القيمي، والتسول الحضاري، وغرقت الأمة في المشاريع الجوفاء والشعارات الخادعة، والبطولات الوهمية في واقع أغلبية مسلمة صامتة ومقهورة لا تقر بذلك، ولكن لا ينسب القول لساكت مقهور على المذهب المشهور !! وفي ظل تاريخ مجيد لا يشهد بذلك، وهنا أيضا لا يسمح بشهادة غائب على حاضر!! في الحاجة العاجلة للخروج من تجربة الضياع الأمني:

إن الخروج من تجربة الحصاد المر لسياسة تضييق مفهوم الأمن واستغلاله أسوأ استغلال تقتضي حلولا عاجلة على رأسها:

– بناء تصور شمولي لمفهوم الأمن يتلازم فيه الأمن الديني والدنيوي، المادي والمعنوي، الفردي والجماعي، الأمن الداخلي والخارجي، وتربية الأمة على وصل أنواع الأمن وتكاملها وتلازمها.

- اعتبار الأمن الروحي للأمة وحماية دينها وصيانة أجيالها من العبث بها وبمعتقداتها وبمقومات هويتها أولى الأولويات في سلم البناء الحضاري للأمة، وفي رحلة العودة لاستئناف البعثة الجديدة وتجديد تدين المسلمين، وعليه يلزم:

- تسخير كل الإمكانات والطاقات والوسائل لخدمة دين الله ورعاية حقوق الله، وإعداد العدة لتكوين العلماء المتمكنين من فقه الدين والواقع فقها يؤهلهم لحفظ أمن الأمة، وأمن هويتها، وأمن مقدساتها.

- تسخير التعليم والإعلام وكل المؤسسات الخاصة والعامة لتأهيل المواطنين تأهيلا علميا وخلقيا يقوي فيهم الاعتزاز بالانتساب للذات، ويقدرهم على التفاعل الإيجابي والآمن داخل جسم الأمة وخارجه.

- تسخير كل مؤسسات الأمة لتحقيق مفهوم الأمن الشمولي كل من موقعه وجهته وتدابيره الخاصة، سواء أكانت جهات رسمية عمومية وشبه عمومية وخصوصية أم كانت مؤسسات مدنية بكل أصنافها ومراتبها.

- إحياء مؤسسة العلماء وإحياء دورها في صيانة ضمير الأمية وحماية هويتها من التلاعب بها، وإحياء مؤسسات المجتمع المسلم كما كانت عليه قبل دخول جحافل الاستعمار من عدل وقضاء أهلي، ومجالس الشورى المحلية والرسمية، وأنظمة التربية على الغيرة لله ودينه وعباده ، وأنظمة التكافل الاجتماعي.

إن أمتنا تمتلك رصيدا علميا وشرعيا زاخرا، وتمتلك طاقات تحتاج إلى حسن توظيف وتوجيه، وللاستفادة من كل ذلك تحتاج الأمة إلى تحقيق الأمن الشمولي، أمن ينطلق من رعاية حقوق الله إلى رعاية حقوق الأفراد والهيئات إلى أمن يثبت أقدام الأمة في التاريخ والحضارة من جديد.

د. الطيب بن المختار الوزاني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>