كانت الأمثلة التي حاولنا معالجة ما وَرَد فيها من أخطاء متعلقة بأحرف المعاني من نوع أحرف الإضافة (الجر)، وقد أثبتنا تلك الأمثلة كما وردت عند المؤلف في نصوصها. ويتعلق الأمر بثلاثة أحرف هي الباء والفاء، وعن، وقد أشرنا إلى أن ضبط وظائف كل منها الدلالية، وإصدار الحكم من خلالها على ما ورد عند المؤلف الذي يستوجب أمرين اثنين :
أولهما : عرض أقصى ما يمكن من دلالات كل حرف (بالتسمية فقط)
وثانيهما مدى صلاحية علاقة كل فعل بالحرف الذي عُدي به إلى مفعول معين، ويبدو أن دلالتي الفعل المعدى بحرف جر معين، والاسم المجرور بذلك الحرف تتظافران فيما يخص تحديد دلالة حرف جر مَّا في سياق معين. وسنحاول تبسيط هذا الكلام الذي أجملناه بخصوص دلالات أحرف الجر الثلاثة المذكورة أعلاه كما يلي :
أولا- عن : دلالا تها واستعمالاتها : يقول ابن هشام(1) “عن على ثلاثة أوجه :
أحدها : أنْ تكون حرفا جارا (أي تجر الاسم الذي يأتي بعدها مثل قوله تعالى : {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب}(النحل : 88).
الثاني أن تكون حرفا مصدريا (وذلك بوقوعها محل أن في لغة بني تميم. فهم يقولون في مثل : أعجبني أن تفعل كذا : أعجبني عَنْ تفعل، فيضعون عن مكان أَنْ. ومعلوم أنَّ “أنْ” حرف مصدر أي أنها تؤول هي وما بعدها بمصدر مثل قوله تعالى : {وأن تصوموا خير لكم}(البقرة : 184). أي صيامكم خيرٌُ.. وهكذا نلاحظ أنّ المصدر “صيام” ناب عن “أن” وما بعدها، وهذا معنى تأويلها بمصدر.
الثالث (أي الوجه الثالث من أوجه عن) أن تكون اسما بمعنى جانب كما في قوله تعالى : {ثم لآتينهم من بين أيديهم، ومن خلفهم وعن أيمانهم، وعن شمائلهم}(الأعراف : 17). إذ الملاحظ في هذه الآية أن “وعن أيمانهم…” أنَّ “عن” معطوفة على مجرور من قبلها وهو “بين” و”خلفهم”، وعليه فعن يمينهم بمعنى جانب يمينهم. والذي يعنينا من بين هذه الأنواع الثلاثة، هو النوع الأول. وهو كون “عن” حرفا جارا كأي حرف من حروف الجر، ولها بهذا الخصوص عشرة معان سنحاول أن نوردها بأمثلها موجزة ومبسطة ما أمكن. فيما يلي :
1- المجاوزة كما في الأمثلة الثالية :
أ “سافرت عن البلد” ب : “رغبت عن كذا” حـ “رميت السهم عن القوس”. يقول الدسوقي : المجاوزة هي تعد شيء عن المجرور بها بسبب اتحاد مصدر الفعل المتعدي بها فمعنى سافرت عن البلد : بَعُدْت بسبب السفر.” وعليه يكون رغبت عن كذا، بعدت عنه بسبب الإعراض، أما رميت السهم فيحتمل هذا المعنى ويحتمل السببية.
2- البدل كما في قوله تعالى :
أ- {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا}(البقرة : 48-123).
ب- وفي الحديث “صومي عن أمك”(صحيح مسلم كتاب الصيام)، ويوضح الدسوقي معنى الحديث بقوله : “صومي عن أمك” أي بدلها…”. وعليه فلا تجزي نفس عن نفس أي بدل نفسه.
3- الاستعلاء كما في قوله تعالى :
أ- {كأنّما يبخل عن نفسه}(محمد : 38) وقول الشاعر: لاه ابن عمّك، لا أفضَلْتَ في حَسَب عنّي، ولا أنتَ ديَّاني فتخزوني ومعنى “لاي ابن عمك” ذر ابن عمك، ففي هذا الشطر من البيت حذف… وقوله فلا أفضلت في حسب عنِّي. أي علي.. وعليه تكون عن بمعنى الاستعلاء الذي هو أصل دلالة على
4- التعليل كما في قوله تعالى :
أ- {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة }(التوبة : 114). وقوله :
ب- {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قومك} أي لأجل قومك فعن في الآيتين تؤول بلام التعليل.
5- مُرادفة بعد كما في قوله تعالى :
أ- {عما قليل ليصبحنَّ نادمين}(المؤمنون : 4).
وقوله : ب- {يحرفون الكلم عن مواضعه}(النساء : 46)، والمائدة 13.
وقوله : جـ- {لتركبنَّ طبقا عن طبق} (الانشقاق : 19). وقول الشاعر : ومنهل وَرَدْته عن منهل وعما قليل في المثال (5أ) يعني بعد قليل، ويحرفون الكلم عن مواضعه في المثال (5- ب) فيعني أنهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه (بحيث) يزيلون اللفظ عن موضعه ويبقى الموضع خاليا”…
6- الظرفية كما جاء في قول الشـاعـر:
أ- وآسِ سراةَ الحي حيثُ لَقَيْتَهُم ولا تَكُ عَنْ حَمْل الرِّعاية وَانيا يعني الشاعر في الشطر الأول من البيت : وآس… الخ : يقال آساه من ماله إذا دفع له شيئا منه فهو من المواساة. والسراة جمع سري بمعنى شريف. والمعنى ساعد الشرفاء من مالك. واجعلهم فيه أسوة لك. فلا تفضل عليهم فيه نفسك، لأن علاقتك بهم وطيدة. وهذه العلاقة هي المعبر عنها في الشطر الثاني ب”الرباعية” قال السيوطي : رباعية الرجل فخذه التي هو منها. وعليه يكون المعنى الإجمالي للبيت ساعد شرفاء قومك بمالك دون أن تتوانى عن ذلك أو في ذلك ففعل “ونِي” يحتمل نوعين من التعدية : الأولى تعديته بعَنْ والمعنى عليها مجاوزة الشيء وعدم التلبس به. وهذا المعنى لا يعنينا هنا (الظرفية). والثانية تعديته بِفِي، ومعناها التلبس بالشيء كما في قوله تعالى : {ولا تنيا في ذكري} (طه : 42) وهذا المعنى هو الذي يعنينا هنا لأنه يفيد الظرفية. والله أعلم.
7- مرادفة مِن : كما في قوله تعالى : أ- {هو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات}(الشورى : 25)، والمقصود في هذه الآية هو عن الأولى لا الثانية. ب- {أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا}(الأحقاف : 16). فعَنْ في الآيتين بمعنى مِن لأن : فعل “تقبل” يتعدى بها بدليل قوله تعالى : {فتُقُبِّل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر}(المائدة : 27) وقوله : {ربنا تقبل مِنَّا}(البقرة : 127). يقول الدسوقي في هذا السياق : “فمادة تَقَبّل إنما تتعدى بمِن، لا بِعَنْ”
8- مرادفة الباء كما في قوله تعالى : أ- {وما ينطق عن الهوى}(النجم : 3)، وتحتمل عن في هذه الآية أن تكون على حقيقتها، فيكون المعنى، وما يصدر قوله عن هوى.
9- الاستعانة مثل : أ- {رميت بالقوس” وب- “كتبت بالقلم” والمعنى رميت السهم مستعينا بالقوس، وكتبت مستعينا بالقلم.
10- أن تكون زائدة للتعويض من أخرى محذوفة كقول الشاعر: أتجزعُ أن نَفْس أتاها حماها فَهَلاَّ التي عن بين جنبيك تَدْفَعُ قال ابن جنى : أراد فهلا تدفع عن التي بين جنبيك فحذفت “عن” من أول الموصول وزيدت بعده.” بمعنى أن أصل التركيب في الشطر الثاني من البيت هو “فهلا عن التي بين جنبيك تدفع”. ومعنى البيت أنه “لا ينبغي أن يحصل لك جزع من موت غيرك مع كونك لا قدرة لك على دفع الموت عن نفسك التي بين جنبيك”. والسؤال بعد عرض ما تيسر من أحوال استعمالات “عن” : مع أي نوع من أنواع دلالات “عن” يمكن أن نطابق معه استعمالاتها كما جاءت عند صاحب اللغة العربية الصحيحة؟ وهي : أـ أخْطأ فيها “عن” الصواب”… “فهم اللغة منطوقة ومكتوبة والتعبير الشفوي والكتابي “عنها” وحـ “إعداد النصوص…عَن مَعْمل اللغات للاستفادة (بها) في تدريب الطلاب” (ص 30-31).
فالملاحظ أن الأساس الذي يستوجب الإتيان بحرف الجر الذي هو قصور الفعل أو لزومه غير متوفر في المثال الأول “أ” لأن أخطأ على وزن أفعل مزيد بالهمزة وهو هنا متعد بهذه الصيغة ولا يحتاج إلى حرف الجر. وعليه نقول : أخطأ الصوابَ بدون حرف الجر”عن”.
أمَّا المثال الثاني ب -فإن الملاحظ بخصوصه أنه ليس ثمة تناسب بين الفعل اللازم الذي يستوجب حرف جر مناسب وبين معنى حرف الجر المركب معه في هذا السياق. فالتعبير أداة تواصل وينبغي أن يؤتى له بالحرف المناسب الذي هو الباء التي تفيد السببية أو الاستعانة. وعليه نقول : “والتعبير الشفوي والكتابي بها”.
أمَّا المصدر “إعداد” في المثال الثالث حـ، فيحدد مع المضاف إليه “إعداد النصوص” مجال الاستفادة الواسع الذي هو نصوص اللغة العربية الفصيحة. ولذا نأخذ منها ما نحتاجه أثناء التعلم والتعليم، فما نحتاجه على كل حال جزء من كل. ولذا نقول “للاستفادة منها” فنأتي بحرف من الذي يفيد التبعيض هنا. والله أعلم بالصواب.
د. الـحـسـيـن گـنـوان
—–
المراجع : مغنى اللبيب لابن هشام، وحاشية الدسوقي (بتصرف) ص 196، وعـ 1ص 159-161 بترتيب.