ألم قلم – الديمقراطية بين الأصل السليم والفرع اللئيم -3-


أستميح القارئ الكريم عذرا في استهلال هذه الحلقة الثالثة المرتبطة بالعنوان أعلاه، بأن أبدأها بحكاية قصها علي أحد الأصدقاء الفضلاء الظرفاء الذي أُكنّ له مودة خاصة. قال لي إنه خلال انتخابات سابقة، وفي إحدى المدن الصغيرة، شاهد صديقٌ له أحدَ الأشخاص وهو يسلّم مبلغ مائة درهم لشخص آخر حاثّا إياه ومشجعا على التصويت على جهة معينة، فلما استلمها وهو يعِد الدافع بأن يفعل ذلك، أضاف له دافعُ المبلغ مبلغا آخر مماثلا، قائلا له: “وهذا لزوجتك…”. حينذاك حاول المشاهدُ المتتبعُ التدخلَ بلباقة ليبين للضحية آخذِ المبلغ أن الإنسان لا يمكن أن يباع أو يشترى، فتقدَّم إليه وحاول أن يخاطبه بأسلوب مقنع وفي مستوى إدراكه، وبعد أن سلّم عليه سأله عن أكبر سوق للمواشي والبهائم في المنطقة، فقال له إنه سوق كذا، فسأله بعد ذلك كم يبلغ ثمن الأكباش فيه، فأجابه ليس أقلّ من ألف درهم، كيفما كان حجم الكبش. ثم سأله عن مبلغ أثمان العجول والثيران فأخبره بأثمان مرتفعة ومتفاوتة، وفي الأخير سأله عن أثمان الحمير، فقال: لا يقِلّ عن ألفي درهم، ثم أعاد عليه السؤال حتى استوثق من جوابه، حينذاك قال له: إن كان ثمن الحمار كذلك، فإني رأيتُ قبل قليل ابنَ آدم يباع بمائة درهم فقط. حينذاك سُقِط في يده، وحاول أن يستدرك ما وقع فيه من خطأ كبير… هذه القصة الطريفة تنبئ عن أحد الجوانب اللئيمة للديمقراطية، إنه جانب شراء الذمم، وربما بأرخص الأثمان، شراء ذمة الناخب قبل ينتخِب، وشراء ذمة المنتخَب بعد ان يُنتخَب، وإن كان ثمن الثاني غير ثمن الأول، ويتناسل الشراء وتتنوع وسائله إلى أن تسقط هِمّة الديمقراطية ليدوسها كل من يرفع شعارَها وهو لا يؤمن بها. وبالطبع فإن شراء الذمم لا يكون فقط بالمال، وإنما أيضا بالجاه والسلطة وغير ذلك من وسائل الضغط على الناخب الذي أصبح وكأنه يرى في كثير من الأحيان أن عملية الانتخابات (أي تجلي الديمقراطية بمستواها اللئيم) بيعٌ وشراءٌ واستفادة من “وزيعة”، وخاصة بعد كثرة ما يرى من “لعبة الديمقراطية” بالمعنى القدحي لكلمة “لعبة”. وحتى حينما تفرز الديمقراطيةُ، بمستواها الوضيع هذا، أقليةً تمثل نبض الشعب، بفئاته المحرومة وشرائحه المهمشة، وإرادته القوية بالعودة إلى أصوله الحضارية ومسلَّماته الدينية، فإنها تتعرض لكل أنواع الإقصاء والتشويه، وحتى محاولة الاستئصال وتجفيف المنابع، كما يقال. وذلك طبعا من قِبَل من نصّبوا أنفسهم “حُماة” للديمقراطية ودعاةً لها ومبشرين بها.
أما إن أفرزت هذه الديمقراطية، رغم التشويش والبيع والشراء، أغلبيةً نسبية أو مطلقة، كما حدث في عدد من الدول العربية، في الآونة الأخيرة، فتلك هي الكارثة بالنسبة لهؤلاء “الحماة”، حيث يعمدون إلى:
> إما إلى الانقلاب على هذه الديمقراطية ذاتها،عن طريق سحب البساط من تحت أرجلها بالتنكر لها، والإعلان عن موت الديمقراطية ونعيها لدى الأوساط التي تؤمن بخط واحد ووحيد، معبرين بلسان الحال، وأحيانا بلسان المقال ما مضمونه: إمّا أن تفرز الديمقراطية أشخاصا من أمثالهم وطينتهم، هم “الحماة”، وإمّا على الدنيا الحرب وليس السلام. ولهذا يلجأ عُتاة الحماة إلى هندسة العملية الديمقراطية في العديد من الهيئات، وفي أكثر من مكان، وتفصيلها على مقاس غريب، بحيث يستحيل أن يلجِها من لم يكن رأسه “أكحل” مثل رؤوس هؤلاء الحماة، الذين ألِفوا كراسي هذه الديمقراطية حتى مَلتهم، من كثرة الجلوس، وتطلعت -وهي التي لا تنطق- إلى من يعيد لها كرامتها وألَقَها التي كانت عليه في الأصل السليم المتعارف عليه، على الأقل من الناحية النظرية.
> وإما بالانقلاب على الناخبين، أي على الشعب، بوصفه بكل أوصاف الإهانة والاحتقار. وكم سمعنا وقرأنا ورأينا في الشهور الماضية، وفي أكثر من بلد، من يتباكى على الديمقراطية التي ذُبحت بأيدي الجاهلين وديست بأرجل الرجعيين، وأُذلت بخطب الظلاميين، الذين يريدون إرجاع البلاد والعباد إلى القرون الوسطى. وطبعا ليس هؤلاء الجاهلون والرجعيون سوى أفراد شعوبنا المقهورة الذين طالما حلموا بالتغيير والإصلاح، وتاقوا إلى الحرية والانعتاق من عصور القهر والاقصاء باسم الديمقراطية، والذين حينما أُتيح لهم بصيص أمل في الرجوع إلى أصالتهم، لم يترددوا في التعبير عن ذلك. هذه بعض الفروع اللئيمة التي تتّشح بها الديموقراطية في أكثر من زمان ومكان، ومن ثَمّ أصبحت في عيون الكثير من الناظرين سوداء كالحة، فأصبحوا يتساءلون: متى ومَن لنا بِمن يُُلبِس الديمقراطية لباسها الأصيل؟ ولعل الجواب هو: عسى أن يكون ذلك قريبا. فلقد بدا أن مبدأ عزل الشعوب الإسلامية عن أصالتهم الحضارية بات في حكم الماضي.

د. عبد الرحيم بلحاج

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>