توقفنا في حلقة ماضية عند المصيبة الدرامية التي حملتها قصاصات الأخبار عن إخراج جثة طفلة من قبرها وممارسة الفاحشة عليها في انتهاك خطير جدا لحرمة الموت والموتى.. وتساءلنا عن دور الدين في النازلة البشعة وهل هو غياب أم تغييب.. وقد عرفت الأسابيع الماضية على هامش انتحار الطفلة أمينة الفيلالي موجة عارمة من السخط والغضب المقوي لحركات المجتمع المدني ضد زوج الضحية، وكانت المناسبة سانحة بشكل لا مثيل له لتصفية الحساب مع الدين والعاملين في حقله، ومن خبر وعرف حركة المد البحري وجزره، والبحر في حال هيجانه وهدوءه وتدبر في تلاطم أمواجه وكر زبده وتتبع تشكل الموجة خاصة العارمة منها، وهي تبدأ صغيرة ولا تزال تتقوى من روافد الموجات الصغيرة المواكبة لسيرها الحثيث إلى الشاطئ لتبدو عالية شامخة في المنتصف وسرعان ما تنهدُّ هدًّا عند المنتهى، ويخور شموخها عند الأفول لتلقى حتفها على الضفاف ويذهب زبدها جفاء ولا يظل منها إلا ما ينفع الناس بالغور العميق من البحار كأنها لم تكن شيئا مصداقا لقوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}، نقول من راقب هذه الآية البحرية العجيبة من آيات الله عز وجل في تخلق الموجة ثم سقوطها، ذكرته لتوها بقوله تعالى : {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وذكرته بحال الأمم والشعوب والحضارات في الصعود والسقوط وقول أبي البقاء الرندي في شأنها لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان حال الإنسان في صخبه وهياجه إذن لا يتعدى هذا الحال من السطوة والنخوة ثم النكسة، فما بالك إن كانت السطوة في تشكلها تحمل بدور فنائها.. وما بالك إن كانت تلك البدور بدور باطل وبصيغة أخرى بدور تحدي لشرع الخالق، ودعوة صريحة لتجاوزه وإعمال منظومات المخلوق الضعيف واعتبارها أسمى في مواثيقها الدولية على المواثيق الوطنية ومقدسات البلاد؟ ما وقع في الملتقى الذي نظمته الوزارة المكلفة بشؤون المرأة مؤخرا في لقائها مع أطياف أمشاج من المجتمع المدني النسائي، في محاولة للوقوف عند مضامين وأسباب وتداعيات انتحار الطفلة أمينة الفيلالي رحمها الله حري بدق ناقوس الخطر ويذكرني للتو بقول المغاربة في مثل هذه الوقائع: ” لاباس مني باقي كاتجي الشتا”، فقد تنادت أصوات إلى ضرورة تفعيل المواثيق الدولية، وفي فحواها وبنودها كما يعلم الجميع دعوة إلى ضرب ما يسمونه (بالمعتقدات والشرائع الدينية المعارضة لحقوق الإنسان) ودعوة إلى إحياء مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية في شقه المكرس للمساواة التامة حتى في الأمور القطعية من الدين كالإرث.
كما دعت تلك الأصوات إلى الحق في (الحب خارج الزواج) بما يعنيه من اقتراف للزنا، حتى إذا هاجت نوازع الغريزة وتطورت إلى اغتصاب وجب القبض على الجاني المتوحش. كما نددت تلك الأصوات بقانون الإجبار على الزواج المبكر بحجة عدم نضج الفتاة الصغيرة لتحمل مسؤولية الزواج، وأغفلت الوقوف عند فحوى الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالطفلة، خاصة منها اتفاقية “السيداو” الداعية إلى تمكين الطفلة من وسائل ممارسة ما سموه (الجنس الآمن) دون اعتراض من سلطة مجتمعية قاهرة لحق من حقوق الطفلة، ويعنون بالسلطة سلطة الآباء و سلطة الدين.. فكيف يقال للفتاة أنت غير جاهزة بيولوجيا للزواج المبكر وأنت جاهزة في المقابل لحب الشارع كالقطط ولتبعات حمل غير شرعي يرمي بك إلى الشارع منبوذة مرفوضة باسم الحق في الحب.. ومن يقبل لابنته أو أخته أن تحمل من حب بلا غد؟ حملا من الوزن الثقيل الذي يحرمها من طفولتها وبراءتها ويجعلها تتصيد لقمتين قاسيتين لها ولجنينها ثم لوليدها بعد الولادة، في ازدراء كامل لوضعيتها إذ يرفض الكثير إن لم نقل جل المقبلين على الزواج شريكة بولد وأي ولد، ولد من زنا..؟! وبالتالي من باسم الحب يسعى لتوريط بناتنا في مستنقع الفقر والتهميش والحرمان من جمال وبراءة الطفولة وشقوة مقاعد الدراسة، وحضن الوالدين الدافئ؟؟؟.. هذا دون الحديث عن الجانب المظلم من القمر الذي يتعلق بالاغتصاب وهو ما يقف فيه الشرع الإسلامي بكل وضوح إلى جانب المرأة في دعوته إلى الرجم حتى الموت للمعتدي وتعيين مهر مجزي للمغتصبة .. وبالعودة إلى هذه الاتفاقيات الملعونة فإنه من حق الطفلة حسب بنودها أن تمكن من وسائل منع الحمل.. في دعوة صريحة لا للحب بل لفتح رحم الطفلة لنطف ومياه مغامرين شتى يأكلون الغلة ويرمون بالقشور إلى الشارع.. دون أن نفتح الباب الطبي لعرض تبعات هذه الوسائل السامة على رحم هذه الطفلة وأدناها العقم وأقصاها سرطان الرحم.. ولأن الحديث يطول في هذا الشأن فدعونا نعود لملحمة ذلك اللقاء “المتميز” إذ كان اليوم يوم جمعة، وإذ أذن المؤذن لصلاة الظهر وصرح المتدخل الذي لم يكن إلا وزير العدل السيد مصطفى الرميد عن نيته الانسحاب للصلاة هاجت القاعة واعترى السخط العارم ثلة من الحاضرات وأعربن عن تذمرهن من تصرف الوزير اللامسؤول باختياره (صلاة الجمعة) في ظرف حرج يتوجب معه إيقاف الأركان الخمسة حتى.. وفاء لروح الطفلة “المغبونة في كل الاتجاهات ومن كل الأطياف”.. وتعالى صراخ المحتجات مذكرا بقاعدة فقهية تم تغييبها في حالة زواج أمينة من مغتصبها، واستحضارها لإحراج السيد الوزير بتذكيره بها، في تعامل انتهازي مقيت مع شرع الله عز وجل. والقاعدة هي قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات).
وبعيدا عن هذا اللقاء، لازالت لقاءات التوسل بالفقد الأليم لأمينة الفيلالي تشعل حطب المناظرات والمناظرات المضادة، في الوقت الذي تتكشف فيه عورة نسائنا عيانا بيانا وبالواضح المفضوح، وهن يزينن موائد ومخادع سواحنا المحترمين مشارقة وغربيين، وهن نساء لا ككل النساء المتعاطيات لهذه الحرفة القديمة قدم التاريخ حرفة الدعارة، بل هن زغب الحواصل من صغيراتنا الأصغر من الفقيدة أمينة الفيلالي رحمها الله.. تتنافس دور الرذيلة لاقتناص الأصغر والأجمل فيهن لتقديمهن وجبة طرية لأنياب ومخالب ضيوف المغرب لقطف بكارتهن ورميهن للشارع..فمن يجرؤ على الكلام الحق في الموضع الحق للشهادة الحق.. دون استخفاف وكيل بمعايير في التعامل مع النصوص الدينية. وقوله تعالى : {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم} لا لبس فيه ولا مفاوز للعب البهلواني الانتقائي؟؟؟؟.
واللحظة ونحن نعالج آثار هذه الفاجعة غير المقبولة شرعا ولا قانونا والدالة على ارتكاس العلاقات الإنسانية بين الرجل والمرأة إلى علاقات غابوية تتحمل تبعاتها المرأة من كل الأعمار دون الرجل، سمعنا عن مقتل الشابة خديجة من منطقة سيدي مومن بالدار البيضاء جراء اعتداء شنيع تعرضت له من طرف عصابة أرادت انتشال حقيبتها وإذ أرادت الدفاع عن نفسها ودخلت معهم في عراك مرت بهم شاحنة دفعوها تجاهها عمدا أو عن غير قصد فدهستها وتركتها تتخبط في دمائها لتلفظ أنفاسها قليلا بعد حملها إلى المستشفى.. والضحية بالمناسبة طالبة جامعية تتابع دراستها في الماستر. الحادث أخرج الناس إلى الشوارع ألما واحتجاجا لضياع الوطن في امرأة خام قتلتها الفوضى وتفريغ العنف المكعب في الجسد الأضعف جسد المرأة.. ألا تستحق هذه الجريمة احتجاجا حضاريا أوسع من طرف المجتمع برمته بما فيه ثائرات المجتمع المدني النسائي؟؟.. من جهة أخرى، من يريد تكميم أفواه العلماء وأصحاب التأطير الديني للناس بحجة فصل الدين عن السلطة.. أليس هذا التناسل الخطير لمظاهر العنف دليلا على النقص الحاصل في مساحة التأطير الديني؟ ألا تحتاج المقاربة الأمنية لمقاربة دينية نوعية لإعانة أهل الأمن على مهمة إعادة الأمور إلى دائرة الإحاطة والسيطرة؟؟.. وهل من اللائق أن تستمر حملة التشويه والسخرية والتنقيص من شأن أهل الدين في الأمر الراشد بالمعروف والنهي عن المنكر، سخرية وتفكهاً بكل الفضاءات وعلى رأسها الفضاء الإعلامي؟.. ومتى نتخلص من مفهوم ” النفعية والكسب” في التعامل مع القضايا المصيرية للبلاد.. وهل نحن بصدد التأسيس للقضايا المكسبة والمربحة، وبصيغة أخرى: قضايا “النساء النافعات” لتصفية الحسابات مع العدو التقليدي (التيار الإسلاموي كما يسمونه) وتعزيز المواقع، وجني الدعم المالي الخارجي الوافر، مع ما يقتضيه هذا الجني من تقديم لرأس الوطن لمقصلة الاستعمار الدولي المتربص من جديد؟؟؟.. مرة أخرى شرح الواضحات من المفضحات.. والضرورات في هذا السياق الملغوم لا تبيح المحظورات ولكم سادتي القراء واسع النظر.
ذة. فوزية حجبي al.abira@hotmail.com