أفاقت من عملية جراحية طويلة ودقيقة.. ساعة أمامها تشير إلى الخامسة مساء.. أين ذلك الفريق الطبي الكبير؟ تذكرت القبر ووحشته حين يهال التراب وينصرف المشيعون.. ثمة وشوشة ممرضات من بعيد.. حاولت أن تحْدث أي صوت ليسرعن إليها.. لكن هيهات هيهات.. فقد خارت قواها.. لا تريد منهن إلا تغطية رأسها للصلاة.. فعليها الظهر والعصر قصرا وجمع تأخير.. لكنها تذكرت مشكلة أخرى؛ فكيف ستتيمم وهي مكبلة بالمصل وأسلاك آلات طبية.. تذكرت فتوى تجيز للأسير الصلاة بدون وضوء أو تيمم..بكت..فكيف لم تسأل العلماء عن ذلك الموقف قبل العملية..؟! فرحت حين اقتحم حنجرتها أنين خافت.. هرع رئيس الممرضين.. لكنه لم يفقه حركة شفتيها.. وظن أنها تهذي.. انهمكت الممرضات في إسعافها.. واسينها حين رأين دموعها.. لم يعرفن حقيقة بكائها..! كانت تبكي على صلاتها..لأن آذان المغرب يقترب.. هرعت إليها ممرضتان من قسم آخر.. كانت قد أوصتهما بتذكيرها بالصلاة.. يممتها إحداهن بحجر.. وغطت الأخرى رأسها… صلت.. وما أصعب الصلاة حينها وما أحلاها أيضا…! صارت تلك الممرضات يعدنها في غرفتها ويعرضن عليها مساعداتهن..بل ربطن معها علاقة طيبة…! بعد مدة طويلة..بحن لها بسر ذلك..فما هو السر؟!
كلما زارتها إحداهن.. بكت.. وقالت لها : لم ننس -كلنا- ذلك المشهد وأنت تبكين على الصلاة..ثم صليت أمامنا وأنت لا تستطيعين الكلام ولا الحركة..كنا ننتظر أن تفيقي من العملية وأنت تهذين كما يحدث لأغلب المرضى.. حينها خجلت من نفسي وبكيت منها وعليها.. سمعت وقرأت مواعظ لا تحصى عن الصلاة.. لكن ذلك المشهد كان أشد تأثيرا.. كنت كلما بدأت الصلاة.. نازعتني مخاوف شتى؛ شعري الذي أخسر عليه مبالغ باهظة عند الحلاَقة.. ومساحيق وجهي… فأترك الصلاة لأجل ذلك… أتدرين أن حديثنا لم يعد في المصحة إلا عن الصلاة؟ فقررنا وتعاهدنا أن نلتزم بها.. لقد هزنا كلامك كالزلزال حين أجبتنا بعد أيام من ذلك : “كنت أخاف أن أموت قبل الصلاة..” لا تدرين كم أحببناك وقدرناك.. نعم.. أحببناك لله وفي الله.. فقد أعطيتنا درسا عمليا لا ينسى.. وكلما تهاونت عن الصلاة.. تذكرتك.. فأهرع إليها.. وأحمد الله أني معافاة ..أستطيع الوضوء والركوع والسجود..وأبوح لك بسر آخر: فقد تذوقت حلاوة الصلاة..وكل يوم تمنحني بركات حرمت منها نفسي طويلا: مناجاة الله عز وجل والصبر والطمأنينة… بكت مريضتنا المعافاة.. وقالت في قرارة نفسها : “رباه لك الحمد أن ثَبَّتْتَنِي على الصلاة.. ولك الحمد أن ابتليتني لأدعو إلى قرة العين وقد كنت عاجزة ضعيفة..!”.
ذة. نبيلة عـزوزي