من مظاهر السقوط أو الوهن الحضاري في الأمة الإسلامية الحالية


توطئـــة :
لاشك أن مظاهر الوهن والسقوط الحضاري في الأمة الإسلامية حاليا أضحت بادية للعيان، ولم تعد في حاجة إلى دقة ملاحظة أو بُعد نظر، لأن الكل يعاني من نتائج هذا الوهن ؛ على مختلف الأصعدة، وعلى جميع المستويات؛ سياسيا، واقتصاديا وثقافيا، وكأني بالأمة الإسلامية اليوم تعيش مرحلة القصعة والوهن التي أخبر عنها الرسول الكريم بقوله صلى الله عليه وسلم : ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ؟ قال : ((بل أنتم يومئذ كثير،ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)) فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن؟ قال : ((حب الدنيا وكراهية الموت))(1). فمؤشرات الوهن الحضاري كما جاءت في الحديث هي :
- تداعي الأمم وتكالبها على الأمة الإسلامية،
- وكون الأمة في مرحلة الغثائية؛ كثيرة العدد وقليلة العدة والقوة،
- استيلاء الوهن والضعف على القلوب،
- التفرق والتشتت- بسبب الطائفية والحزبية
- الصراع والاقتتال بين المسلمين على الزعامات، ناهيك عن مظاهر التخلف الاجتماعي والضعف الاقتصادي وغيرها..
والسبب الأساس في كل ذلك كما ورد في الحديث، هو حب الدنيا وكراهية الموت ،بدل حب الله وما أمر به من الحق، والعدل والإحسان، فحب الدنيا يعني العب من متعها واللهاث وراء زينتها، واستهلاك أشيائها ولو كانت من فتات حضارة المستعمر الحاقد، وكراهية الموت يعني حب حياة المذلة والهوان وكراهية العزة والجهاد، وغياب الشعور بواجب حفظ الأمة ومقدساتها..
وتتجلى مظاهر الوهن الحضاري للأمة الإسلامية حاليا في عدة مجالات ؛ تربوية وثقافية واجتماعية وسياسية وعلمية تقنية، وإن اختلفت مستوياتها وتباينت من قطر لآخر، إلا أن ماهو شائع ومشترك بين الأقطار الإسلامية، يمكن ملاحظته فيما يلي :
شيوع آثار الفكر الإرجائي والخرافي في أوساط العامة :
إن من آثار الانحراف العقدي عن منهج الرسول والصحابة الكرام، والمتجلية آثاره في سلوك عموم أفراد الأمة الإسلامية، شيوع الفكر الإرجائي خاصة على مستوى العمل حيث يسود التواكل و التقاعس عن العمل والميل إلى المواقف السلبية، وانتظار الآخرين، وذلك ما عبر عنه المفكر الداعية د عبد المجيد النجار بقوله : ((لو تأملت حال المسلمين اليوم وهي الحال التي استصحبوها منذ قرون لألفيت واقعا من الإرجاء يسيطر على وضعهم العقدي رغم أن معظمهم لا يؤمنون بالإرجاء نظريا، ذلك أنك تراهم يصدقون (يؤمنون) بالقلب، ولكنهم لا يعملون بمقتضى تصديقهم في السلوك، فيجري هذا السلوك على غير مقتضى الاعتقاد… ولقد ازداد الانفصال بين الإيمان والعمل استفحالا في واقع الأمة لما نبتت فيها طائفة لا تكتفي بتأخير الأعمال غفلة وجهلا، ولكنها تجعل ذلك مبدأ نظريا وتعده فهما من أفهام الدين، وإذا كانت هذه النابتة قليلة العدد في إطار الأمة الواسعة إلا أنها تسيطر على حظوظ الأمة ومواقع القرار فيها، فأجرت الحياة العامة (بوسائل إعلامها) على نمط لا صلة له بالعقيدة الإسلامية(2).
وقد سبق معنا قوله -في بداية الحلقة الأولى من حلقات هذا الموضوع- : ((وقد كان الخلل الذي أصاب الأمة الإسلامية في تحملها لعقيدتها عاملا حاسما في انحسارها الحضاري، سواء ما آل إليه الأمر من انحراف في التصور العقدي،أو من سطحية في التحمل الإيماني تراخى بها الدافع الإرادي للعمل الحضاري..))(3).
ومعلوم أن المقولة الشائعة لدى بعض العامة بأن الإيمان في القلب، والنية أبلغ من العمل، من بنات الفكر الإرجائي، والإيمان في القلب فكرة باطنية تريد تمييع الإسلام وجعله مجرد خيالات فلسفية، وتمنعه عن الظهور، يقول الدكتور مصطفى بنحمزة : “فكرة الإرجاء فكرة باطنية تريد منع الإسلام عن الظهور.. وما يريده الباطنية هو أن يعطونا فهما جديدا للإسلام يحيل كل شيء على القلوب وعلى النفوس، ويجعل الناس في حل ليصنفوا أنفسهم كما يشاءون يمينا ويسارا..”(4) و يؤكده المفكر الداعية محمد قطب بقوله : “وأما أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان فبدعة خطيرة وانحراف شديد عن حقيقة هذا الدين الذي ما قام، وما يمكن أن يقوم بغير عمل وجهد ضخم يبذل في واقع الأرض…”(5).
ويضيف : ((وأيا ما كانت الأسباب التاريخية التي أدت إلى تفشي الفكر الإجرائي فقد أحدث مفاسد عظيمة في بنية الأمة منذ أخذت تتفلت من التكاليف ثم يوهمها الفكر الإرجائي أنه لابأس عليها من هذا التفلت مادام قلبها عامرا بالإيمان..))(6).
إلى أن يقول: “..ثم جا ء الفكر الصوفي على خط مواز للفكر الإرجائي، وإن كان على نحو آخر، فالفكر الإرجائي أخرج العمل كله من مسمى الإيمان، أما الفكر الصوفي فقد ركز على العبادة بمعناها الضيق المحصور في الشعائر التعبدية والذكر، وأهمل من أنواع العبادة عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،والجهاد في سبيل الله”(7).
عدم تحكيم شرع الله في الحقوق والواجبات :
أكبر جريمة ارتكبت في حق الأمة الإسلامية هي إبعادها عن شرع الله في إقامة الحق والعدل، وتحكيم شرع البشر (القوانين الوضعية) في حياة الناس بدلا من تحكيم شرع الله، مما ترتب عليه أن سلط الله عليهم أعداءهم، وجعل بأسهم بينهم، مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((…ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)).
القبول بواقع التجزئة وإسقاط الخلافة الشرعية الموحدة للأمة :
لما قصرت همة المسلمين عن التطلع والطموح إلى إعادة مجد الأمة القوية الواحدة، ولما عجزوا عن التحرر من التبعية للمستعمر، ومن حب الزعامة المتوهمة -ولو لقطر صغير- قنعوا باسم الاستقلال وتكوين دويلات صغيرة حدودها في الغالب غير آمنة أو هي بؤر صراع مع الجيران الإخوة في الدين والعرق واللغة، وقد حرص الأعداء على إثارة الفرقة والنزعات القومية والطائفية بل والحروب بين الأقطار والشعوب الإسلامية لتظل خاضعة لتخطيطهم بطريق مباشر أو غير مباشر من خلال أنظمة حكم تدين لهم بالتبعية وتسلط الأعداء على مقدرات أقطارنا الإسلامية.
هكذا صار حال الأمة الإسلامية من الضعف والوهن والهوان والغثائية والتخلف والفرقة والحروب وصار الدم المسلم من أرخص الدماء على وجه الأرض وأنتشر الفساد والانحلال وسوء الأخلاق بين أبناء الشعوب الإسلامية.)) ((وحرص الأعداء على إثارة الفرقة والنزعات القومية والطائفية بل والحروب بين الأقطار والشعوب الإسلامية وتسلط الأعداء على مقدرات أقطارنا الإسلامية لتظل خاضعة لتخطيطهم بطريق مباشر أو غير مباشر من خلال أنظمة حكم تدين لهم بالتبعية.
التبعية السياسية والاقتصادية للدول الاستعمارية :
جل الأنظمة السياسية في البلاد الإسلامية -إن لم نقل كلها- لها تبعية ما، أو تقليد لأنظمة الدول التي استعمرتها سابقا،سواء على مستوى النظم الرسمية الحاكمة أو على مستوى التنظيمات الحزبية، إلى درجة تقليد الأحزاب الغربية في التسمية واستبعاد كل اسم يشعر بالهوية الإسلامية، وأكثر من ذلك هو تبني الفكر السياسي الغربي بكل قيمه البراغماتية والميكيافلية التي تزكي مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) المنافي للقيم الإسلامية، ولا تدخل الصدق والوفاء في قاموسها إلا عند مواجهة الخصوم والمنافسين بأضدادها.
ضعف المستوى التربوي والعلمي العام :
من مظاهر الضعف والوهن الحضاري تبعية الأنظمة التعليمية في جل البلاد الإسلامية لأنظمة الدول التي استعمرتها سابقا، عدم تشجيع البحث العلمي، وعدم تقدير العلم والعلماء، ومن ينتسب للعلم لا يحترم التخصصات، أحيانا يدعي معرفة كل شيء أو أشياء كثيرة، وتختلط لديه الأوراق والمناهج، وقد يجمع بين المتناقضات.
الاستلاب الثقافي والحضاري لدى النخبة المتعلمة :
الأنظمة التعليمية التي استنبتت في أرجاء الأمة الإسلامية أعطت أكلها بتخريج جيل بل أجيال من المثقفين والمتعلمين الذين انبهروا بثقافة المستعمر وتفوقه التكنولوجي وبحضارته بصفة عامة، فتنامي لديهم الشعور بالنقص تجاه بلدانهم، وعدم الاعتزاز بالدين وبمقومات الأمة الحضارية، غالبهم يعيش في أبراج عالية عن الجماهير الشعبية ولم يعد لهم دور في تكوين مرجعية قيمية موحدة، (الضمير الجمعي أو الأنا الأعلى -كما يقولون-) ولا أثر في تشكيل العقلية الشعبية أو الذهنية العامة، فراح شباب الأمة ضحية الإعلام المسموم والثقافة الغازية أو المستوردة، إلا من رحم ربك، ممن كان تكوينه أصلا وقناعته على الثقافة الإسلامية الأصيلة، أو عاد إليها بعد أن تكون في العلوم العصرية فجمع بين الثقافتين..
التلهث وراء المنتجات المستوردة والمقتنيات الاستهلاكية :
وكل أمة تروم النهوض الحضاري أو التجديد والبناء لا يصح ولا يسوغ لها أن تنطلق من عالم الحاجات الاستهلاكية كحال أمتنا اليوم التي توهم نفسها بأنها متحضرة بما تستعمله من تقنيات وأدوات متطورة أنتجها الآخرون، مما جعلها أمة متواكلة يتسابق أفرادها ويتنافسون على اقتناء الأشياء والأدوات المستوردة، ويلهثون خلف منتجيها،فأصيبت الأمة بالخمول والكسل، وأخلدا لجميع إلى المتعة والراحة فهانت عليهم كرامة الأمة وضعفت حتى سامها كل نذل وخوان.. قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}(الأعراف). هذه المظاهر للأسف -بما فيها من أسباب ونتائج- هي التي أوصلت الأمة الإسلامية إلى ما هي عليه من الضعف والهوان والغثائية والتخلف والفرقة والانحلال وسوء الأخلاق بين أبنائها، ثم الحروب المفتعلة في جل الأقطار الإسلامية، حتى صار ت دماء المسلمين من أرخص الدماء على وجه الأرض والله المستعان.
د. محمد البوزي
———-
1- عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم صح د 3610 صحة 958
2- مجلة إسلامية المعرفة ع 1سنة1995 ص: 75
3- نفس المرجع.
4- من مقالات له في تفسير سورة التغابن نشرت في حريدة المحجة، انظر العدد 166 فبراير 2002 م.
5- في كتابه (كيف ندعو الناس ) طبعة خاصة بسلسلة كتاب المحجة (عدد3) مطبعة أنفو برانت فاس 2003 ص : 184.
6- نفس المرجع. ص:185.
7- نفسه 186.
8- سنن ابن ماجة كتاب الفتن وهو حديث صحيح.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>