من فتنة الاستبداد إلى فتنة تقسيم البلاد…!


هل قُدر لهذه الأمة أن لا تعيش إلا في الفتن ؟! وهل قَدرُها أن لا تغشاها إلا المحن؟!

لقد توالت على الأمة نكبات جسيمة،  وتناوبت عليها أزمات عظيمة، خاصة في القرون الأخيرة، بعد أن فرط المسلمون فيما لديهم من الكنوز والذخيرة،  وخرجوا صاغرين من أرض الجزيرة، ولاحقهم عدوهم في بلادهم بالاحتقار والاستعمار، والاحتلال والاستغلال، والاستعباد والاستبعاد،  ومارس عليهم كل أشكال التعذيب والتغريب، والغزو الفكري والمحو الجسدي، والتقسيم والتقزيم، فصيرهم أقزاما بعد أن كانوا أعلاما، وجعلهم أذلة صاغرين بعد أن كانوا أعزة قاهرين.

وانتقلت الأمة من ذلة الاستعمار، إلى لذة المقاومة بعز وافتخار،  غير  أنها ما إن ذاقت نشوة الانتصار حتى وجدت نفسها في قبضة من الحديد والنار، يتزعمها أصهار الاستعمار من أبناء الدار الذين فتكوا بالأخيار والأحرار، فصنعوا أمجادهم بالأكاذيب والأغاليط وجعلوا من الشعوب مجرد مرضى وجوعى و”مزاليط”. تُصنع لهم بهجتان عظيمتان في العمر: الأولى عندما يُدعوْن لمهراجانات الفُحش والعري والأغاني، لتزيين لوحة الأحلام والأماني، والثانية عندما يُدعون إلى صناديق الانتخابات للتعبير عن الروح الوطنية، والإسهام في بناء صرح الديمقراطية!!

ولهم نعمتان جليلتان: التنعم بنعمة ازدهار الجهل والجوع والقتل، ونعمة الحرمان من العدل والخير والفضل.

ومرت فتنة عصر استبداد أبناء الدار ووكلاء الاستعمار بإحكام الأحكام وإلجام الأصدقاء والأعداء من الخواص والعوام عن الخوض في الكلام في كل ما من شأنه أن يسيء للسادة الحكام.

وحرصا على وحدة الجماعة سُن قانون التسوية في حقوق الأمية والمجاعة، وفي واجبات الخضوع والطاعة، وفي الوقوف أمام القانون والطاعون، وسُن قانون الإرهاب لتسويغ حكم الغاب وإعادة فرض الاستعمار والانتداب، وتجديد الدماء في عروق الكراسي المتهاوية، والصروح المتداعية.

كما تميز عصر حكم أهل الدار بتشييد الأسوار والأنهار، وتكميم الأفواه ووضع القيود، وإغلاق المنافذ والمعابر والحدود، والتنكر للغة الجدود، وخرق كل المواثيق والعهود، والتحلل من كل العقود في تداول السلطة دون الرغبة في البقاء والخلود.

ولا أنسى مناقب أخرى أن حكام أهل الدار ما كان لهم من رأي ولا قرار، أمام سدنة النظام الدولي من الدول الكبار، لا يرفلون في نعيم الرضى والرضوان إلا ما داموا في حرب وتدابر  بين الإخوة والجيران، لا يتفقون ولو اجتمعوا ويتفرقون إذا اجتمعوا.

ظلت الشعوب والحكام في فرحة عظيمة بهذه الإنجازات العظام … حتى أظل الجميع ربيع ليس كأي ربيع: انقلبت فيه الموازين، ودارت على أهلها الطواحين، وخرجت الجموع لميادين التحرير لإلغاء ما عُهد منها من الخضوع والركوع، وإعلان ميلاد فجر الحرية، والمطالبة بإنهاء الأصنام السلطوية.

طارت الرياح بالنسائم والبشائر، وتغيرت كثير من الأحوال والمصائر، وتنفس الناس الصعداء واستبشر الأخيار والشرفاء.

غير أن هذه الأمة ما إن بدأت تلد فجرها حتى تعسرت الولادة، ووقف كثير من السادة والقادة، والوكلاء والعملاء ممسكين بخيوط اللعبة الماكرة، إنها لعبة الفتنة الطائفية والنزعة العرقية، وتفتيت المفتت، وتقسيم المقسم، وتقزيم المقزم، وكأن الديمقراطية ليست إلا الانفصال، وكأن التحرر من الاستبداد لا يساوي إلا قطع حبال الود والوصال، بين أهل السهول والجبال، وكأن رفع السلاح ضد الطغيان يساوي أيضا إشهاره في وجه الإخوان إذا رفضوا الاستقلال بالكيان.

فيا أمة نُكبت بالاستعمار وتفرقت قطعا كقطع الغيار، احذري فتنة من يشعل النار في الإعصار، وتعلمي من التاريخ أن فتنة تقسيم البلاد، وتفتيت المفتت قد تخلص من الاستبداد الأصغر لكنها تدخل حتما في الاستبداد الأكبر والأخطر، ثم إن الأدهى والأمرهو الخروج من التاريخ بوصمة الخزي والعار.

د. الطيب الوزاني

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>