ما لا يجوز الزهد فيه
من المباحات التي لا يجوز الزهد فيها الزواج مثلا، تصوروا لو أن فردا من الأمة لم يتزوج إطلاقا في حياته كلها، فإن ذلك لا يزيد ولا ينقص من الأمة شيئا، ولكن لو أجمع مثلا المغاربة كلهم على ترك الزواج، بعد مائة سنة لن يبق مغربي على وجه الأرض، فإذا لم يبقى الناس في الأرض انعدمت النفس وانعدم الدين؛ لأن الدين إنما هو بمن يتدين؛ ومن هنا لا يجوز إطلاق فتوى عامة بتحديد النسل، مع أنه يمكن في نازلة لفلان أو لفلانة، لحالة خاصة طبية معلومة، أما للعموم هكذا على الإطلاق فهذا يخالف مقاصد الشريعة التي تسعى إلى الإكثار من النسل وإقامة الدين، لأن بالإنسان يكون الدين، من هنا إذن يصبح الزواج مباحاً، لكنه في المقاصد يؤدي إلى إقامة الدين وإقامة النسل، واستمرار النوع البشري، فهذا الأمر لا يُزهَد فيه، ولا أجر في ترك الزواج، ولا في ترك الطعام والشراب من المباحات إطلاقا، وحديث ثلاثة رهط ليس عنا ببعيد، عائشة رضي الله عنها: “جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أُخبِروا كأنهم تقالوها، أحدهم قال: أما أنا فلا أتزوج النساء”، وقفت عند هذا الشاهد الذي يهمني، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكَر عليه ذلك، قال: وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، وأيضا أنكر على من قال: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، قال: وأصوم وأفطر -هذا النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم-، أما وإني أعبدكم لله وأتقاكم له، فالعبادة الحق والتقوى الحق إنما هي إتيان ما أحل الله، من أراد أن يكون عابداً لله حقيقة عندما يجد المباح يلزمه أن يتناوله، ثم قد يقع من ترك المباح أن تصاب الأمة بتضليل كما وقع في التاريخ، كم من أحد انقطع عن أكل اللحم فظن جهلة الناس أن اللحم مكروه وانقطعوا عنه وقد وقع لبعض المتفلسفة في الزمن السابق حتى صاروا نباتيين لا يأكلون إلا النباتات لا يأكلون اللحم ومشتقات اللحم وهذا خطير؛ لأن هذا تشريع مضاد للشريعة {يا أيها النبيء لم تحرم ما أحل الله لك} {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام}، إذن تحريم المباح لا يقل خطورة عن إباحة الحرام، من قال: إن المباح حرام أو مكروه مثل من قال: الخمر حلال، مثل من قال لك اللحم حرام، لأن تحريم المباح كإباحة الخمر وهذا خطير، لأنه افتآت واستدراك على الله الذي أباحه، فبأي حق تأتي لتحرمه بعده، صحيح أنت لن تحرمه بلسانك، ولكن تحرمه بسلوكك، إذا كان عندك ولم تأكله قصدا، يعني أنك تزهد فيه، فعليك وزر وليس لك أجر، لأنك تفتئت على الشارع، هذا لا يجوز، إذن كل مباح -يخدم الضروريات الخمس- المقصد منه يؤدي إلى خدمة الدين، ولو من بعيد، وخدمة النفس و النسل ليتكاثر الأبناء والأسرة والتربية، وخدمة المال التجاري كل ذلك مباح لا يجوز للإنسان أن يزهد فيه، أحد الناس يزهد في العمل، يقول أنا زاهد وجالس في الظل، هذا متواكل، ووزره أكثر من أجره، بل لا أجر له.
ففيما الزهد إذن؟
الزهد يكون في المباح المسكوت عنه، الذي لم يتكلم عنه الشارع، لأن كل هذه الأشياء التي تخدم هذه الضروريات الخمس تكلم عنها الشارع إباحة في القرآن أو في السنة وكانت من سلوك النبي صلى الله عليه وسلم، الأسوة الحسنة والقدوة الرفيعة، هذه المباحات منها ما هو منصوص عليه ومنها ما يُفهَم بالقياس، إذا ركب صلى الله عليه وسلم الجمل فنحن نركب السيارة مثلا أو الطائرة، يُفهَم بالقياس وهكذا… والآيات العامة فيها عموم، وهي شاملة لكل المباحات إلى قيام الساعة فكل الطيبات من الفواكه التي لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فواكه حديثة تظهر في زماننا الآن تدخل كلها في قوله عز وجل: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} وطيبات الرزق قالوا: “هي الأشياء الزائدة عن الضرورة من المتع”، الأشياء الزائدة عن الحد الضروري وهي التفكه بالنعم مما أنعم الله به على العباد وفي الحديث: أن أحد الصحابة خشي أن يكون من المتكبرين، فقال: يا رسول الله: “إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة”، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جميل يحب الجمال))(رواه مسلم)، فكل ما يتجمل به الإنسان من طيب اللباس وطيب المركب وطيب المسكن كل ذلك من المباح الذي لا يجوز الزهد فيه، بل إن نوى الإنسان أن يعبد الله به تحول من مباح إلى مندوب في الأجر، أو إلى واجب في بعض الأحيان من حيث الأجر، الأجر الذي يعطيك الله في بعض المباحات كالأجر الذي يعطيك إياه على بعض المندوبات أو في بعض الأحيان على بعض الواجبات أيضا.
مـاهو المسكوت عنه؟
إذن نعرف الآن ما المسكوت عنه؟ المسكوت عنه في الشريعة إنما يُقال لِمَا كانَ عامَّ البَلْوَى في زمان الرسالة ولم ينزل فيه نص، لا يأتي أحد ليقول لنا إن الشاي من المسكوت عنه يلزمنا أن نزهد فيه، هذا لا يقال، لأن الشاي لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، (لا يُسمى شيء مسكوتا عنه حتى يكون في الزمن النبوي لا سلباً ولا إيجابا، ولم تتكلم عليه السنة لا سلبا ولا إيجابا، ويقال) هذا كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم عنه القرآن! ولم يرد في السنة! هذا هو المسكوت عنه، فالله بكل شيء عليم سبحانه وتعالى، فإذن أَمَا وقد عَلِمَه الله ولم يوحِ فيه شيئا لا بالكتاب ولا بالسنة فمعناه أنه قد سكت عنه، لم يُرد أن يتكلم عنه، لأنه لو تكلم عنه لحرمه، لأنه لم يصلح وسكت عنه، تركه من المباح، ولكن من المباح المسكوت عنه، إذا فعلته لا يوجد بأس، وإذا لم تفعله أحْسَن؛ لأن ذلك النوع الآخر من المباح إذا فعلته أحسن، فقد تكلم عنه ولم يسكت، كإباحة الزواج، وإباحة الطعام والشراب وإباحة اللباس وكل المباحات في قوله عزوجل {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المُسوَّمة والانعام والحرث}، زين للناس حب الشهوات من النساء -الزواج مباح- والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة -يعني المال بصفة عامة- والخيل المسومة -الكسب من سائر الحيوان- والأنعام والحرث، كل ذلك متاع الحياة الدنيا، إذن هذه أصول وكليات المباحات، فاللباس أُشِيرَ إليه في الأنعام، لأننا من أصوافها وأوبارها نلبس، وسائر أمور الإنسان التي يحتاجها تُستَخلَصُ من هذه الأصول، فصَرَّحَ بها الشارع، تكلم عنها الله عز وجل في القرآن وفصَّلتها السنة، ولكن نوع المباحات التي يلزمنا الزهد فيها لم يتكلم عنها القرآن الكريم ولا السنة النبوية، سكت عنها، لأنه لو نطق بها لحرمها، ولكن سكت عنها رحمة بكم، كما في الحديث فلا تسألوا عنها، فإذن لا تسألوا عنها بقيت في المباح، لأنه لو تكلم لوجدنا النص، مثال ذلك الغناء ((هذا الذي اختلف عليه العلماء من قديم))، الغناء من عموم البلوى، في زمان الرسالة، ما معنى من عموم البلوى؟، العرب قبل الإسلام أمة مُغَنِّيَة، معروف أن العرب كان لهم صناعة واحدة في العلوم والفنون هي الشعر، وشعر العرب غنائي، وكان الأعشى يسمى (صناجةَ العرب)، يعني (كمانجة أو كنبري العرب) أو الكمان بلغة العصر، لإنشاده شعره ولأن العرب كانت تتغنى في أفراحها وفي أحزانها، ولا يقال إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف الغناء، أبدا بل يعلم به، وثبت في السيرة أنه مرة وهو في طفولته صلى الله عليه وسلم، ذهب إلى حفل لقريش وترك الغنم عند من يعتني بها، وبمجرد الشروع في الغناء سلط عليه الله النعاس ولم يستيقظ إلا على أشعة الشمس، فلم ير شيئا، ما ثبت ولو مرة واحدة أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع فِعلاً بقصدٍ، وجلس في محاضر الغناء وفي مجامع الغناء، ولكن لا يوجد نص واحد في القرآن يُحَرِّمُ الغناء إطلاقا، ستقولون لهو الحديث، قيل هذا الكلام، منذ القديم وكل الأسانيد التي أُسنِد فيها ذلك لابن عباس في قوله الغناء وفي قوله الطبل كلها ضعيفة، وقد ضعَّفَها ابن حزم منذ القديم، ثم بعد ذلك عندنا قاعدة من قواعد التشريع، إذا أراد الله عز وجل أن يُحرِّم شيئا حرمه باسمه لا يكني عليه، أراد أن يحرم الخنزير فقال: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} -سماه باسمه-، والعرب لا تعرف الخنزير، الخنزير وهو حيوان لا يعيش في الصحراء، يعيش في البلاد الغابوية الرطبة الندية، أما الصحراء ليس لديه فيها ما يأكله، الصحراء تعيش فيها الضباع والسباع والحيوانات الأخرى الصحراوية المعروفة، وهذا عجيب يجب أن نتأمله، الله عز وجل أراد أن يحرم الخنزير ولو لم يعرفه العرب، أغلب العرب يومئذ لم يروا الخنزير حتى بأعينهم، وحرمه، لأنه أراد أن يحرمه، فإذا أراد فقد أراد، {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}، ثم لأن الله يعلم وهو العليم الخبير أن الأمة الإسلامية ستمتد إلى بلاد الماء كالمغرب والأندلس، وإلى بلاد أوروبا، كما كانت قبل ممتدة حتى بلاد البلقان حيث يعيش الخنزير بكثرة، وسيأكل المسلمون الخنزير وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فحرمه على من سيأتي، صحيح حرَّمَه حتى على السابقين طبعاً، ولكن العبرة بالنص عموم الأمة في الزمان المستقبل والزمان الحاضر.
فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
-يتبع-
——-
(ü) منزلة الزهد من حلقات منازل الإيمان التي ألقيت بمسجد الجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي . أعدها للنشر : عبد الحميد الرازي