… إن كنت أنسى فلن أنسى منظر ذلك الطفل المفعم بالحيوية وهو يلاعب أمه المتوشحة بالحزن والأسى بالرغم من الطرحة البيضاء على رأسها حزنا على استشهاد زوجها الشاب على أيدي فلول الشبيحة فجر أحد الأيام وهو عائد من مسجد قريته الهادئة. تقول الأم (وهي تغالب دمعة حارة أبت إلا أن تنساب على خدها الغض الطري) : اختبئ أنت يا حبيبي أولا… بل أنتِ أولا… لا بل أنتَ أولا… ثم يتبادلان الضحكات، ويمضي كل واحد منهما لمخبئه الآمن.
ومعها تمضي الضحكات تهدأ رويضا، رويضا… إلى أن تنتهي فجأة، ويَلف المكان صمت رهيب شبيه بصمت القبور. وتمضي الساعات الكسلى متثاقلة لا يقطع هدوءها سوى طلقات نارية متفرقة هنا وهناك، وأزيز مروحية قادمة من بعيد ممزوجة بأصوات سيارات إسعاف…
ويُملأ الجو فجأة خوفا ووجلا بعدما مُلئ هدوءا كالموت. وهكذا يمر الليل أو بعضه ومع بزوغ أول خيوط شمس اليوم الموالي، يلف المكان عويل وصياح فيخرج الناس من مخابئهم أشتاتا ليروا ما خلفه شبيحة الليل من دمار وضراب وبرك دماء زكية يُقسم غير واحد ممن مروا بها أنها تفوح مسكا وعنبرا..!
يتقدم فتى مجروح متكئا على صديق له وهو يشير إلى أطلال بيت : هناك كان بالأمس طفل يداعب أمه : تقول هي.. أنت أولا ثم يقول هو : لا بل أنتِ أولا.. وتقطع العبرات كلامه فلم يستطع أن يتم فيتمتم صاحبه : “وأنا والله سمعته يصيح : ماما.. ماما أنا هنا.
أنا..” وقبل أن يتم مرت دبابة ……لم تنخدع بلعبة (الغميضة) التي كان منهمكا فيها مع أمه، فانقض الجدار عليهما وكان تحته كنز لهما خرج منه طائران أخضران حملاهما مع حواصلهما رأسا للسماء وسط غمامة من المسك والعنبر…
ذ. عبد القادر لوكيلي