الخطبة الأولى
روى الإمام الترمذي في سننه وقال حديث حسن. عن سيدنا أبي ذر الغفاري وسيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن”. أصل التقوى هو أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه. فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك. وذلك بفعل الطاعات واجتناب المنكرات وامتثال المأمورات واجتناب المنهيات والوقوف عند المحدودات. التقوى هي أن يرى العبد مولاه حيث أمره. وأن يفقده حيث نهاه.
التقوى هي الخوف من الجليل والرضا بالقليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل. ولفظ التقوى تارة يضاف إلى اسم الله عز وجل فيكون المعنى اتقاء غضبه وسخطه وذلك أعظم ما يتقى وهو جل وعلا أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه لما يستحقه سبحانه وتعالى من الإجلال والإكرام وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش وشدة البأس. قال تعالى : {واتقوا الله الذي إليه تحشرون} وقال أيضا : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} وقال أيضا جل جلاله : {هو أهل التقوى وأهل المغفرة}. وتارة يضاف لفظ التقوى إلى عقاب الله عز وجل إلى مكانه وإلى زمانه. قال جل شأنه : {واتقوا النار التي أعدت للكافرين. وقال أيضا : {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا}{واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} وقال أيضا جلت أسماؤه وصفاته : {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا}. إخوة الإيمان التقوى خلق الأنبياء الأطهار، والعلماء الأخيار : التقوى وصية الله تعالى ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم ووصية سلف الأمة. قال جل شأنه : {ولقد وصينا الذين أوتوا الكت اب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}.
وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أوصى الأمير في خاصة نفسه بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا.
ولما خطب صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم النحر وصى الناس بتقوى الله تعالى وبالسمع والطاعة لأئمتهم، ولما وعظ صلى الله عليه وسلم الصحابة وقالوا له كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال : أوصيكم بتقوى الله وبالسمع والطاعة. ومن دعائه صلوات الله وسلامه عليه : “اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. وكان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يتواصون دائما فيما بينهم بتقوى الله عز وجل ومراقبته. فهذا سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة وعهد إلى سيدنا عمر رضي الله عنه بالخلافة وصاه بوصية. وأول ما قال له : اتق الله يا عمر، وكتب سيدنا عمر رضي الله عنه إلى ابنه عبد الله : أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل فإنه من اتقاه وقاه ومن أقرضه جزاه ومن شكره زاده. فاجعل التقوى نصب عينيك وجلاء قلبك. وكتب سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى رجل : >أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها. ولا يثيب إلا عليها. فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل. جعلنا الله وإياك من المتقين)). واستعمل سيدنا علي رضي الله عنه رجلا على سرية فقال له : >أوصيك بتقوى الله الذي لا بد لك من لقائه ولا منتهى لك دونه وهو يملك الدنيا والآخرة)) إلى غير ذلك إخواني مما هو مأثور عن سلفنا الصالح رضي الله عنه. في هذا الباب وهم القدوة والأسوة الذين يجب علينا أن نقتفي أثرهم ونسلك مسلكهم ونسير على منهجهم.
إخوة الإيمان
التقوى منهج للحياة كل الحياة : عامة وخاصة : تقوى الله جل وعلا مطلوبة من العبد في كل حال في الحضر والسفر في الخلوة والاختلاط في السر والعلانية في الصحة والمرض في الغنى والفقر في السراء والضراء في المنشط والمكره في العسر واليسر، في الضيق والسعة، في السلم والحرب. تقوى الله عز وجل مطلوبة من العبد في كل مكان في البر والبحر والجو، في البيت والسوق والشارع، في المصنع والإدارة، في المسجد والمدرسة. فتقوى الله تعالى مطلوبة من العبد في كل حال وفي كل مكان. فقد قال نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم: >اتق الله حيثما كنت)) أي وعلى أي حال كنت.
وبالجملة فتقوى الله تبارك وتعالى على كل حال وفي كل مكان علامة كمال الإيمان. إخوة الإيمان : كيف نرتقي إلى درجة المتقين؟ التقوى الكاملة هي فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات والشبهات والمكروهات. قال تعالى : {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يومنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يومنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون}وقال أيضا : {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء(أي في الفقر والمرض)وحين البأس(أي القتال) أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}.
وقال سيدنا أبو الدرداء رضي الله عنه تمام التقوى أن يتقي العبدُ اللهَ حتى يتقيه من مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما ليكون حجابا بينه وبين الحرام. فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليه فقال : {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} فلا تحقرن شيئا من الخير أن تفعله. ولا شيئا من الشر أن تتقيه. وقال بعض السلف لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين -أي الكمل- حتى يدع مالا بأس به حذرا مما به بأس. وقال بعض آخر : المتقي(أي الكامل التقوى) أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه. وقال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مبينا كمال التقوى في تفسير قول الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} قال : تقوى الله حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر. وشكر الله جل جلاله يدخل فيه فعل جميع الطاعات ومعنى أن يذكر فلا ينسى أن يذكر العبد بقلبه أوامره في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها. ونواهيه في ذلك فيجتنبها. وقد وصف الله جل شأنه المتقين الكمل بأنهم يعاملون الناس بالإحسان إليهم إنفاقا ويكظمون غيظهم وغضبهم ويعفون عنهم، فهم قد جمعوا بين وصفين جليلين بذل الندى واحتمال الأذى.
ثم وصفهم سبحانه بأنهم غير معصومين فقد يذنبون ويعصون ولكنهم لا يتمادون في ذلك ولا يسترسلون بل يذكرون عظمة الله وشدة بطشه وانتقامه وما توعد به من العقاب على المعصية. فيوجب لهم ذلك الرجوع في الحال والاستغفار وترك الإصرار. قال ربنا الرحمن الغفار{سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة او ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}. وكما قال تعالى أيضا :{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان. (أي إغواء ووسوسة بالمعصية) تذكروا فإذا هم مبصرون} والنتيجة هي كما قال تعالى {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين}.
الخطبة الثانية
إخوة الإيمان
هيا بنا نعرف فضل التقوى ونعمل من أجله!!
التقوى… خير وبركة : فمن خيرها وبركتها أنها طريق إلى الجنة ومنجاة من النار. قال الله تعالى : {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا}. من خيرها وبركتها أيضا أنها سبب معية الله جل جلاله للعبد تأييدا وعونا وتوفيقا. قال عز من قائل : {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}. ومن خيرها وبركتها أيضا أنها جالبة لرحمة الرحمان جل شأنه. قال سبحانه : {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون}. ومن خيرها وبركتها أيضا أنها موجبة للجنان والسكن بجوار الرحمان. قال تعالى: {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر}. ومن خيرها وبركتها أيضا أنها مفتاح الفرج وسبب الرزق.
قال الحق جل جلاله : {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب}. ومن خيرها وبركتها أيضا أنها سبب تيسير الأمر. قال الله عز وجل: {ومن يتق الله يجعل له من امره يسرا}. ومن خيرها وبركتها أيضا أنها مفتاح التفرقة بين الحق والباطل وسبب تكفير السيئات ومغفرة الزلات. قال سبحانه : {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم}.
خالد الناضير