إن عصر الاتكاء الكلّي على حقائق علمية معينة قد انتهى، وحل محلّه اعتقاد سائد، أخذ يتسع شيئاً فشيئاً، في أن ميدان العلم لا يشهد تغيّرات فحسب، بل طفرات وثورات.. إن المادية الديالكتيكية -مثلاً- أقامت بنيانها في بعض جوانبه على أسس المعطيات العلمية للقرن التاسع عشر، وقد تبدلت تلك الأسس وتغير الكثير من تلك المعطيات وما زال أتباع التفسير المادي يصفونه بالعلمية. وما يقال عن هذا التفسير يمكن أن يقال عن معظم النظريات الفلسفية والنفسية والاجتماعية، وجلّ الآداب والفنون التي نهضت على تلك الأسس المتغيرة.
إن جانباً من أخطر الجوانب الفيزيائية وأهمها، وهو “الظاهرة الذرية” تمردت على السببية التي اتكأ عليها العلماء في حقول الفيزياء والتي شكلت افتراضاً أساسياً في العلوم.. وإن نوعاً من الإرادة الحرة في العلاقات الذرية أخذ يحلّ محل القاعدة الحتمية التي تعرّضت للتصدّع. ونتساءل: إذا كان التركيب المادي ـ الذرّي نفسه يتجاوز الحتميات صوب الحرية، فكيف يتسنى لنا أن نخضع الحياة البشرية في صيغها الفردية والجماعية لنوع من الحتمية الصمّاء؟؟ ألا يعد هذا نوعاً من العمل الخاطيء (علمياً) لأنه يتحرك باتجاه مضاد لنواميس العالم والأشياء؟
إن نتائج فلسفية هامة ستتمخض عن هذا التغيّر إذا حدث وأن ثبّت أقدامه كحقيقة مسلم بها.. إن الفرق بين ما هو طبيعي وما هو خارق للطبيعة سوف يتناقص.. الفرق بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، والحضور والغيب، والمادة والروح، والقدر والحرية، وستلتقي معطيات العلم مع حقائق الدين في عناق حار.. لقد حدث وأن التقت مراراً، أما ها هنا، حيث تنهار الحواجز المادية وتمتد الحرية إلى صميم التركيب الذرّي، وحيث يقف الإنسان سيد العالم والمستخلف فيه، حرّاً في أن يتحكم بالطبيعة التي سخرّت له، لا أن تتحكم هي به كما صوّرت فلسفات “الحتمية” في القرن التاسع عشر. ها هنا سيكون لقاء من نوع آخر.. لقاء كثيراً ما حدثنا عنه القرآن الكريم، كتاب الله المعجز، وعرض علينا نماذج غنية من صيغه وأنماطه.
إن المعجزات التي يحدثنا عنها القرآن الكريم، هي لقاء من نوع ما بين ما هو طبيعي وما هو خارق للطبيعة، أو بعبارة أخرى: تجاوز للفارق بينهما.. وإن نقل عرش بلقيس من مكان بعيد في لحظات معدودات -على سبيل المثال- هو نموذج من عديد من النماذج على تمكن الإنسان الحرّ، المدعم بتأييد الله، من التحكم بالتركيب الذري (الحرّ) للأشياء وتطويعها لإرادته.. وإن الطاقات الطبيعية وما وراء الطبيعية التي منحها الله سبحانه لنبيّه سليمان \ تمثل تمكن الإنسان من تحقيق وفاق بين الطبيعي واللا طبيعي من أجل تحقيق تقدم حقيقي مبدع.
إن إرادة الله سبحانه تتجاوز اعتبار الطبيعة آلة هائلة جميع منتجاتها مقرر سلفاً، فتصوغها كما تشاء: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون}، وهي بهذا تحدث توافقاً فذا بين القانون وبين الإبداع.. بين القدر وبين الحرية.
فإذا ما حدث وأن استمّد الإنسان المؤمن من إرادة الله هذه، كان بمقدوره أن يمارس -بالنسبة التي تنسجم ودوره في العالم- تحقيق وفاق كهذا يحدث تقدماً حقيقياً مبدعاً، ما دام أنه حرّ، وما دامت الطبيعة نفسها، في صميم تركيبها الذري، مخلخلة إلى الحدّ الذي يمكّن هذه الحرية من أن تنفذ إليها لكي تصوغها لصالح الإنسان.
إن العلم قد بلغ أخيراً هذه المرحلة الخطيرة.. المرحلة التي يلتقي فيها المادي بالروحي في وفاق وانسجام، ويتصالح الإنسان مع الطبيعة لتحقيق التقدم المنشود، سيدّاً في العالم وخليفة في الأرض.
أ. د. عماد الدين خليل