قبل أن يؤتى داود الملك والنبوة آتاه الله قوة، فكان مقاتلا صنديدا ومحاربا ماهرا وسيفا جرّده الله تعالى يرد به بطش الجبارين وظلم المعتدين، وكأنما كان يهيأ للمهمة الرسالية التي غيرت وجه التاريخ، وكانت حدّا فاصلا في حياة البشرية بين مرحلتين، وتلك المهمة الرسالية هي أن يبلغ دعوة ربه، وينشر رسالة التوحيد، ثم أن يعلّم الناس ما علمه الله من فنون القتال الدفاعية التي ترد بأس الظالمين. كان الناس من قبل يتفننون في استحداث أدوات القتل من سيوف ورماح، فصاروا مع داود يتعلمون كيف يصنعون لباس الدفع، وينسجون الدروع السابغات ترد عنهم البأس.
وقد حكى لنا القرآن الكريم أول أمر داود عليه السلام قبل مرحلة النبوة والملك، فقال تعالى: }أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. فلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}(البقرة : 246- 251) .
ولقد وصف الله تعالى داود عليه السلام بأنه: ((ذو الأيد))، أي ذو القوة، وهو إلى قوته ليس بجبار ولا طاغ، بل أواب إلى ربه، وقد آتاه الله الملك وشدّ ملكه: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخطَابِ}(ص : 17- 20).
وكما أوحى الله إلى نوح عليه السلام أن يصنع السفينة وعلمه كيف يصنعها، فكذلك أوحى إلى داود عليه السلام أن يصنع الدروع السابغة، وهيأ له كل الأسباب لذلك، ومنها أنه أَلاَنَ له الحديد. وماذا لو أن الحديد لم يلن في يد داود؟ كيف له أن يصنع ما أمر به؟ وما تكون حال البشرية لو لم يسخر لها الحديد؟ ما الذي كان لتبلغه في سلّم الحضارة لولا ذلك؟ وقد بيّن الله تعالى الحكمة من وراء ذلك اللباس العجيب الذي أوحى به إلى داود فقال سبحانه: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ}(الأنبياء : 78- 80).
وكما أن رسالة الأنبياء رسالة سلام روحيّ ومعنويّ، فهي كذلك رسالة سلام جسديّ ومادي. أليس الإنسان بنيان الله؟ أليس ملعونا من هدم بنيان الله؟ فكذلك المحافظة على الإنسان روحا وجسدا تكون إحياءً له، وتلك من معالم البناء الحضاري: {لتحصنكم من بأسكم}. لقد صار هذا اللباس الذي صنعه داود حصنا للإنسان، لكنه حصن خفيف ومتنقل بدلا من الحصون الشاهقة الثابتة.
وإذا كانت سورة الأنبياء قد ذكرت لنا علّة صنع ذلك اللباس الواقي، فإن سورة سبأ تتقدم بنا خطوة أخرى، فتفصل الحديث في طريقة تلك الصناعة تفصيلاً وفيما عسى أن تكون عليه حتّى تقوم بوظيفتها خير قيام.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (سبأ : 10- 11).
والعرب تنسب الدروع إلى داود، وإذا أرادت الثناء على الدروع قالت: إنها من نسج داود. وقد نسبت إلى داود في الشعر كثيرا، ونسبت في بعض الشعر إلى سليمان، إما خطأ وإما بسبيل التوسع، إذ تابع سليمان صنعة أبيه داود في نسج الدروع.
قال أبو ذؤيب الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صَنَعُ السوابغ تبّعُ
وقال المعري يصف درعا:
وداود قين السابغات أذالها
وتلك أضاةٌ صانها المرء تبّعُ
ونستعين ببعض ما ورد في المعاجم قبل أن نعرّجَ على أقوال بعض المفسرين. جاء في (لسان العرب، مادة: سرد): ((سردَ الشيء سردا وسرّده وأسرده: ثقبه. والسرد: الخرز في الأديم، والتسريد مثله. والسراد والمسرد: المخصف وما يخرز به. والخرز مسرودٌ ومسرّدٌ، وقيل سردها نسجها، وهو تداخل الحلق بعضها في بعض. والسرد: اسم جامع للدروع وسائر الحلق وما أشبهها من عمل الحلق. وسميّ سردا لأنه يسردُ فيثقب طرفا كلّ حلقة بالمسمار فذلك الحلق المسرد. والمسرودة: الدرعُ المثقوبة…
وقول الله عز وجل: {وقدّرْ في السّردِ} قيل: هو أن لا يُجعل المسمار غليظاً والثقب دقيقا فيفصم الحلق، ولا يجعل المسمار دقيقا والثقب واسعا فيتقلقل أو ينخلع أو يتقصف، اجعله على القصد وقدر الحاجة).
وفي (مقاييس اللغة، مادة: سرد): ((السين والراء والدال أصل مطرد منقاس، وهو يدل على توالي أشياء كثيرة يتصل بعضها ببعض. من ذلك السرد: اسم جامع للدروع وما أشبهها من عمل الحلق. قال الله عز وجل في شأن داود عليه السلام {وقدّرْ في السّرد} قالوا: معناه ليكن ذلك مقدرا، لا يكون الثقب ضيقا والمسمار غليظا، ولا يكون المسمار دقيقا والثقب واسعا، بل يكون على التقدير)).
وفي (اللسان، مادة: سبغ): ((السابغة: الدرع الواسعة… والدرع السابغة التي تجرها في الأرض أو على كعبيك طولاً وسعةً، وأنشد شمر لعبد الله بن الزَّبير الأسدي:
وسابغةٍ تغشى البنانَ، كأنما أضاةٌ بضحضاحٍ من الماء، ظاهرِ)).
وأما كتب التفسير فحسبنا ما قال ابن عاشور، رحمه الله، في (التحرير والنوير) في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }. قال: (وتنكير ((فضلا)) لتعظيمه وهو فضل النبوءة وفضل الملك، وفضل العناية بإصلاح الأمة، وفضل القضاء بالعدل، وفضل الشجاعة في الحرب، وفضل سعة النعمة عليه، وفضل إعانته على الناس بما ألهمه من صنع دروع الحديد، وفضل إيتائه الزبور، وإيتائه حسن الصوت، وطول العمر في الصلاح وغير ذلك.
…وإلانة الحديد: تسخيره لأصابعه حينا يلوي حَلَق الدروع ويغمز المسامير… و((سابغات)) صفة لموصوف محذوف لظهوره من المقام إذ شاع وصف الدروع بالسابغات والسوابغ حتى استغنوا عن ذكر هذا الوصف عن ذكر الموصوف.
ومعنى “قدّر اجعله على تقدير. والتقدير: جعل الشيء على مقدار مخصوص. والسرد: صنع درع الحديد، أي تركيب حلقها ومساميرها التي تشدّ تشقق الدرع بعضها ببعض فهي للحديد كالخياطة للثوب، والدرع توصف بالمسرودة كما توصف بالسابغة)).
وقد استكمل سليمان مهمة أبيه داود عليهما السلام في صناعة أدوات الدفاع الحربي، وهو الدرق، ولكن باستعمال النُّحاس، فناسب أن يقول الله عز وجل بعد ذلك: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ }(سبأ : 12).
والقطر هو النحاس، قال في (التحرير والتنوير): (والإسالة: جعل الشيء سائلا، أي مائعا منبطحا في الأرض كمسيل الوادي. و((عين القطر)) ليست عينا حَقيقيّةً ولكنها مستعارة لمصبّ ما يصهر في مصانعه من النحاس حتى يكون النحاس المذاب سائلا خارجاً من فساقي ونحوها من الأنابيب كما يخرج الماء من العين لشدة إصهار النحاس وتوالي إصهاره فلا يزال يسيل ليصنع له آنية وأسلحة ودَرقاً، وما ذلك إلا بإذابة وإصهار خارقين بقوة إلهية، شبه الإصهار بالكهرباء أو بالألسنة النارية الزرقاء، وذلك ما لم يؤته ملك من ملوك زمانه.
ويجوز أن يكون السيلان مستعاراً لكثرة القِطر كثرةً تشبه كثرة ماء العيون والأنهار كقول كثير:
وسالت بأعناق المطيّ الأباطح
ويكون ((أسلنا)) أيضا ترشيحاً لاستعارة اسم العين لمعنى مذاب القطر، ووجه الكثرة).
واستكمالا للحصون المتحركة الخفيفة، التي هي الدروع الملبوسة، يأتي ذكر الحصون الدفاعية الثابتة التي صنعتها الجن لسليمان عليه السلام، وهي المحاريب، فيقوله تعالى: { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(سبأ : 13).
قال ابن عاشور، رحمه الله تعالى: (والمحاريب: جمع محراب، وهو الحصن الذي يحاربُ منه العدوّ والمهاجم للمدينة، أو لأنه يُرمّى من شرفاته بالحِراب، ثم أطلق على القصر الحصين، وقد سَمَّوا قصور غمدان في اليمن محاريب غمدانَ، وهذا هو المراد في هذه الآية. ثم أطلق المحراب على الذي يُختلى فيه للعبادة فهو بمنزلة المسجد الخاص. قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}…وكان لداود محراب يجلس فيه للعبادة. قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ }(ص : 20).
ولما كان التذكير بهذه النعم الكثيرة، وفي مقدمتها هذه الدروع السابغة، والملابس الواقية من بأس الحرب، اختتمت الآيات بالدعوة إلى شكر الله عز وجل على هذه النعم السابغة، والذي أسبغ على الإنسان من النعم الظاهرة والباطنة، والمادية والمعنوية، ما لا يعد ولا يحصى: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}، فلذلك كان هذا الأمر الحكيم: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }(سبأ : 13).
د. حسن الأمراني