ليس من باب الترف الفكري البحث في مفاهيم القرآن الكريم -وبالتحديد مفهوم القراءة-، فالوحي مجموعة مفاهيم إذا ضبطت ضبط الدين، وبناء المفاهيم ضرورة حضارية وفرض من فروض الكفاية الذي إذا لم يقم به أحد أثم الجميع. فالمفاهيم القرآنية ليست ألفاظا كباقي الألفاظ البشرية، إنها مستودعات كبرى للمعاني والدلالات وقد تتكثف في مفهوم واحد ثقافة كاملة أو حضارة كاملة أو تاريخ بأجمعه.
لـمـاذا مفهوم القراءة؟
كان أول ما نزل من الوحي هو الأمر بالقراءة مرفوقا بكيفية القراءة “اِقرأ باسم ربك …/اِقرأ وربك الاَكرم…” ومجالات القراءة “الذي خلق. خلق الاِنسان…/الذي علم بالقلم…”. ومن هذا الأمر تشكلت العقيدة والفكر والمجتمع ثم الأمة وبعدها الحضارة الإسلامية.
فقراءة هذا دورها وهذه فعاليتها، ليست بالمفهوم الشائع والمتداول للقراءة، فأول ما يتبادر إلى الأذهان عند سماع عبارة قراءة القرءان هو الجانب الصوتي وما له من أحكام وقواعد من ترقيق وتفخيم وغنة وإدغام وغير ذلك -مع أهميته-، أو هو ترديد الكلمات عن طريق الشفاه دون عناء أو تكلُّف لإدراك كنه تلك الكلمات.
ثم لماذا انحصرت القراءة فيما هو مسطور (الكتاب المسطور)، وغيبت قراءة المنظور (الكتاب المنظور/الكون بكل ما بث فيه من خلائق).
إن أسئلة مثل هذه وغيرها دفعت بنا إلى إعادة بناء مفهوم القراءة في بيئته القرآنية حتى يتسنى لنا بإذن الله بيان معانيه ودلالاته وفكه من الانحسار الذي أصابه.
فمادة قرأ في اللغة تدور على أصل واحد هو الجمع والاجتماع ، ومنه القرآن سمي بذلك لجمعه تراث النبوات وثمرة علوم الأولين والآخرين، ولاجتماع الناس/الأمة حوله.
وبلحظنا لعملية القراءة، نجدها تتركب من مجموعة عمليات: نظر وتدبر وتفكر وعقل وتتبع… وغير ذلك مما يفعل عملية القراءة ويؤدي بها إلى الغرض المقصود الذي هو تحصيل العلم والمعرفة اللذين بهما تتحقق مهمة الاستخلاف والعبودية في الأرض. فالقراءة في القرءان ليست أمرا كما اتفق، بل هي ذات محددات وصفات ومجالات.
محددات القراءة
سنفرد بالكلام محددا واحدا نراه من أهم المحددات المنهاجية وآكدها، قال عز وجل: “اقرأ باسم ربك الذي خلق…/اقرأ وربك الاَكرم…” يتبين من خلال الآيات أن القراءة يجب أن تكون باسم الرب ومع الرب، فهو استحضار دائم للعناية الربانية بهذا المخلوق الذي خلق وهو لا يعلم شيئا {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والاَبصار والاَفئدة لعلكم تشكرون}(النحل :78). فالإنسان مدين لله في خلقه وعلمه ومعرفته، وهو بذلك غير مستغن عن الله عز وجل بل، دائما، في حاجة إلى المدد الإلهي والفتح الرباني، ومن ظن أنه مستغن عن الله في تحصيله المعرفي فهو طاغ في الأرض ظالم لنفسه.
فالقراءة باسم الرب ومع الرب تنتج حضارة ربانية قرآنية، حضارة قلبها التوحيد وطابعها التزكية وهدفها العمران والصلاح في الأرض. والقراءة المستغنية عن الله هي قراءة إلحادية تكفر نعم الله، إلا أنها رغم ذلك تنتج مدنية ولكن ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب لأنها مفتقرة إلى الرشد الرباني القرآني.
فالربانية في القراءة باسم الرب ومع الرب هي بمثابة عاصم من الوقوع في حبائل الشيطان وسبله ومكايده، إن هذه الربانية تهدي إلى الرشد والصلاح وتسير بالإنسان سويا على الصراط المستقيم.
صفات القراءة
> 1- صفة البشرية :
إن هذا الوحي أنزل إلى الإنسان، أولا وأخيرا، ليهتدي به ويعمله في مجاله، والاهتداء به لا يمكن أن يتحصل بدون القراءة والفهم والفقه عن الله عز وجل كلامه وخطابه. فالإنسان هو المكلف بالقراءة لما زود به من مؤهلات تمكنه من ذلك.
ومن خصائص هذه القراءة البشرية النسبية، وذلك أن قدرات وطاقات الإنسان محدودة مهما بلغت، وكل ما ينتجه من علم ومعرفة هو محدود كذلك بالنسبة لعلم الله عز وجل المطلق {وفوق كل ذي علم عليم} ليبقى الإنسان ينشد الكمال ويبحث عن الحقيقة. “وليس كما يزعم دعاة الحضارة الغربية الذين يقوم فكرهم على أساس طغيان معرفة الإنسان، وهو ما عرف بـ”الفاوستيه”، وتعني عبقرية الإنسان وقدرته على اكتشاف المجهول مهما بلغ هذا المجهول من خفاء، ولكون الإنسان قد أدهش بإنجازاته الضئيلة، فإنه غير قادر على تفهم معنى العناية الإلهية به، رغم أنه لا يزال في حضيض المعرفة فيما لو علم أن ما تم اكتشافه حتى اليوم، ليس شيئا بإزاء غوامض وأسرار عالم الشهادة. فكيف بعالم الغيب؟!” .
> 2- صفة الاستمرار والتجدد :
قال عز وجل: “سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إلا ماشاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى}(الاَعلى :6- 7).
يقول الطاهر بن عاشور: والسين علامة على استقبال مدخولها، وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصته إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد وذلك تأكيد لحصوله وإذا كان قوله “سنقرئك فلا تنسى” إقراءً، فالسين دالة على أن الإقراء يستمر ويتجدد.
إن من خصائص الوحي أنه مكنون تتكشف معانيه عبر الزمن وحسب الطلب وحسن صياغة السؤال، فمعانيه غير منتهية وإن كانت ألفاظه منتهية {قُلْ لَو كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبٌِي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبٌِي وَلَوْ جِيئْنَا بِمِثْلهِ مَدَدًا}(الكهف :104)، “وَلَوْ اَنٌَمَا فِي الاَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ اَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدٌُهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَة أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ. إِنٌَ اللهَ عَزِيزُُ حَكِيمُُ}(لقمان :26). ومن خصائص الكون وهو الكتاب المعادل للوحي، أن حقائقه غير منتهية كذلك بالنسبة للإنسان أما الله عز وجل فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ولو كان مثقال ذرة أو حبة خردل. هذا اللاتناهي هو السبب في استمرار وتجدد القراءة وفي تراكم العلم والمعرفة ليستوعب اللاحق السابق فيبني عليه أو يتجاوزه.
مجالات القراءة
تتعدد مجالات القراءة بتعدد موضوعاتها، إلا أنه يمكن اختزال هذه الموضوعات في ثلاثة مجالات كبرى هي: مجال الوحي، ومجال الكون، ومجال الإنسان، فهي مجالات كلها تخدم مجتمعة، وكلها تستقي من نبع المجال الأول وتنضبط بضابطه.
> 1- مجال الوحي :
يعتبر الوحي مجال القراءة ومصدرها، فأول ما نزل منه هو الأمر بالقراءة في كافة المجالات التي ذكرناها، فمجال الوحي أوسع المجالات وأشملها باعتباره يستوعب الإنسان والكون، الزمان والمكان، عالم الغيب والشهادة.
فالوحي يقدم التصورات عن الله وعن الآخرة، عن الملائكة، عن الرسل والرسالات عن الوحي في مجمله من بدايته إلى منتهاه، عن العلاقة بين الرسل والرسالات، عن حقيقة الدين ومنتهاه. وهذه التصورات لا سبيل لها غير سبيل الوحي.
ويقدم الوحي التصور عن الكون وعن الخلائق المبثوثة فيه مما يدركه الإنسان وما لا يدركه وعن العلاقات التي تربط هذه المخلوقات فيما بينها (كعلاقة السماء والجبال بالأرض وغير ذلك) وعلاقة المخلوقات كلها بالإنسان، وعن علاقة الكون بالوحي.
ويقدم الوحي التصور عن الإنسان، طبيعته وحقيقته، نفسه وروحه، مداخله المعرفية والنفسية، مكامن القوة فيه والضعف، أحواله وتقلباتها، وعن علاقته بالله وبوحيه، وعلاقته بأخيه الإنسان، وعلاقته بالكون.
ويقدم الوحي التصور عن الحياة، وهي مسرح تفاعل الوحي والإنسان والكون، عن ماهيتها وبما تصلح وبما تفسد، عن تقلباتها وابتلاءاتها وغير ذلك.
فالوحي يقدم التصور العام الشامل عن كل من الكون والإنسان والحياة، أما تفاصيل الأمور ودقائقها، فمتروك للإنسان اكتشافها ومعرفتها من خلال اتصاله بهذه العناصر وإقباله عليها، وباستفراغ جهده ووسعه وتوظيف حواسه وقدراته المعرفية في الإحاطة بها.
> 2- مجال الكون :
إذا كان الوحي كلام الله المسطور، فإن الكون كلام الله المنظور {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنٌَمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(غافر :68). وكل مخلوقات الكون تعمل بوحي من الله عز وجل {ثُمٌَ اسْتَوَى إِلَى السٌَمَاءِ وَهِيَ دُخَانُُ فَقَالَ لَهَا وَلِلاَرْضِ اِيتِيَا طَوْعًا اَوْ كَرْهًا، قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}(فصلت :10). {وَأَوْحَى رَبٌُكَ إِلَى النٌَحْلِ أَنِ اتٌَخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشٌَجَرِ وَمِمٌَا يَعْرِشُونَ}(النحل :68). {وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السٌَمَوَاتِ وَالاَرْضِ…}(الرعد :16). وفي الكون تتجلى مجموعة من الحقائق التي وجه القرءان الإنسان بالنظر إلى الكون لمعرفتها وإدراكها ليحصل له اليقين، لأن النظر في الكون يقود إلى الإيمان لكن الإيمان لا يكتمل إلا من خلال النظر في الوحي لأنه هو الذي يقدم التصور الشامل للأشياء، وقد سبق أن قلنا بأن الوحي يقدم تصورا شاملا عن الكون وعن علاقته بالإنسان التي هي علاقة تسخير، فعليه أن يبذل جهده ويشغل حواسه وقلبه في اكتشاف سنن التسخير وفقهها للانتفاع بهذا الكون، فما من مخلوق في هذا الكون إلا وخلق لغاية وهدف ولم يخلق الله عز وجل شيئا عبثا.
> 3- مجال الإنسان :
تنقسم القراءة في مجال الإنسان إلى قسمين: قسم يخص الإنسان في ذاته فردا ثم مجتمعا، والآخر يخص منتوج الإنسان المعرفي أي ما خلفه البشر من معارف وعلوم من خلال قراءتهم في مجال الوحي والكون والإنسان.
فالقسم الأول قراءته واجبة لأن الإنسان هو المكلف بالاستخلاف في هذا الكون ولا يمكن أن تقوم مهمة الاستخلاف كما أرادها الله بمنأى ومعزل عن الوحي، ومن هنا تأتي مهمة الإنسان المكلف بإدخال الوحي في مجال الإنسان والحياة، ولكي يتحقق هذا وجب معرفة المداخل والمنافذ التي منها يمكن إدخال الوحي وإنفاذه، ويمكن أن تتمثل في: معرفة معتقدات الإنسان(تصوراته عن الله والإنسان والكون)، وقربه أو بعده من الفطرة، بعده أو قربه من الوحي، عاداته وتقاليده وأعرافه، تاريخه، علاقاته، أفكاره… مما يستعان به في استمالته وإقناعه لإعادة تشكيله وصياغته بالوحي.
أما القسم الآخر فتجب قراءته لأن الإنسان تكاملي في ذاته ومع بني جنسه، فكما أن الرسالات السماوية كانت تكاملية عبر الأزمنة والأمكنة، فإن المعرفة البشرية تكاملية هي بدورها عبر الأزمنة والأمكنة، وليست هناك معرفة بشرية مطلقة يمكن الوقوف عندها وعدم تجاوزها، بل الإنسان في اكتشاف واكتساب مستمر للعلوم والمعارف، لأن العلم والمعرفة يبنيان أولا على التعليم الإلهي للإنسان {وعلم آدم الاَسماء كلها}{علم بالقلم علم الاِنسان ما لم يعلم}، ثم على العلوم والمعارف السابقة. وقراءة هذا التراث البشري المعرفي هي قراءة استيعاب وتجاوز في إطار تصديق الوحي وهيمنته.
د. نعيمة لبداوي(ü)
———-
(ü) باحثة في الفكر الإسلامي
1- انظر: أحمد بن فارس، المقاييس، مادة “قرأ”
2- الإنسان والحضارة في القرءان بين العالمية والعولمة، د.فرح موسى. دار الهادي، الطبعة الأولى 1424هـ/ 2003م. ص:96-97.
3- التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، ج 30 ، ص: 280.