آية عظيمة قالها رب العزة في حق رسوله ومصطفاه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وردت في مطالع سورة القلم جوابا لقسم، المقسم به الظاهر هو القلم الأداة الأساسية في أي مكتوب يُعبّر عما في النفس والعقل، له قوة الاستمرار في التوصيل الديني بتوصيل الوحي ونشره وبالتوصيل المعرفي العلمي فكان للقلم شرف كبير في منفعة الإنسان في الدين والدنيا. ولهذا صح التنويه به ورفعه إلى درجة المقسم به مصحوبا بما يكتب ويسطر. والنظر الصحيح يرجح أن ما يكتب مما يمكن أن يقسم به لأنه يتضمن الصدق والحق هو كتاب الوحي، خصوصا القرآن، لأنه النعمة العظمى والمعجزة الكبرى وأتت الآية الكريمة في مرتبة الجواب الأول للقسم ينفي عن رسوله نفيا قاطعا أي طعن أو لمز في قدراته الشخصية التي مركزها وأساسها قوّة العقل وصفاؤه الذي يتعلم ويحسن الاندماج مع ما علّم، والمعلم هو الله سبحانه، فقد حكم الله بنعمة جامعة منه لكل ما أنعم على رسوله من شرف سلالته وحصانة تربيته، ومن قوة بنيته وما شاع من خصاله الحميدة، ومن اختياره للرسالة الخاتمة ومن النعمة الكبرى المتمثلة في القرآن المهيمن على سائر الكتب السابقة.
وسجّل القلم أن يحفظ رسوله محمداً حفظا تاما كاملاً من أي مكروه يُؤذيه في عقله ومداركه وذكائه وفطنته من إنس أو جن، فصلته صلى الله عليه وسلم بالطاهرين الطيبين من الناس وبما أراد الله له من الملائكة المقرّبين المطهرين. أما الجن فالله سبحانه قد أخبر في سورة الجن أن نفراً منهم هيّأ الله لهم فرصة سماع القرآن من لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فحصل لهم العجب من بيانه وبلاغته ومن دعوة إلى الرشاد والصواب في العقيدة والسلوك فسارعوا إلى التعبير عن إيمانهم بالقرآن الذي يقوم على توحيد الله سبحانه. وهؤلاء عناصر طيّبة من الجن اقتربت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاخت واستمعت للطيب من القول الذي يستجيب له كل طيّب من الخلق.
فالقرآن له أثر إلهي والرسول صلى الله عليه وسلم له أثر تكويني بصنع الله ومشيئته واختياره واصطفائه لأداء مهمة سامية جامعة لأصفى رسالة إلهية. ولكي تُنجز هذه المهمة على وجهها الصحيح لابد أن يكون المكلف بها على وعي تام كامل في جميع الأوقات وأن يكون حاضر الفكر يُطبّق المنهج المرسوم له بتوجيه من الوحي بدقة تامة. وأن يعان بمعجزات خارقة أعلاها مرتبة القرآن وبيانه وأنواره الساطعة في الهداية وجلب القلوب الطاهرة الطيّبة.
ولذلك فالذي يُفهم من الآية الكريمة وقد أتت جوابا للقسم في سياق تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومخاطبته بالكاف المقرونة بـ{ربّك}. يُفهم أنك يا محمد قد بلغت درجة من العقل هي درجة عالية، درجة الكمال والتمام فأنت تصدر في أقوالك وأفعالك من وحي الله {إن هو إلا وحي يُوحى} الذي أنعم عليك نعمة كُبرى لم يصل إلى مرتبتها في الكمال والتمام أي بشر بما وهبك الله من أسرار نعمه وبما فضلك به من المزايا والخصال الحميدة يُؤكد كل ذلك قوله سبحانه {وكان فضل الله عليك عظيما} وكذلك قوله سبحانه في مطلع سورة الكهف : {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} فكما أن القرآن الكريم ليس به عوج فكذلك عبده الحامل له المبلغ له ليس به أي عوج وأي خلل يتعارض مع استقامة القرآن.
ويمكن أن يستفاد من الآية الكريمة {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} أن أي مؤمن مصدق برسالته يتبعه بإخلاص ويقدّر نعم الله عليه ويحمل القرآن في صدره عن علم وفهم وتدبر يزن الأمور والأحوال بميزان القرآن وشرعه، يكون وارثا حقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتصف في عمومه بصفات الرسول فيحفظه الله ويرعاه ويدافع عنه من جهة، وتكون درجته من قوة العقل وذكائه ومن طهارة النفس عالية من جهة أخرى. وتكون الحكمة والكياسة والرحمة هي أسلوبه في مخاطبة الناس والتعامل معهم ولهذا كانت منزلة العلماء الصادقين العاملين المخلصين عالية عند الله وعند الناس.
د. عبد العلي حجيج