خروق في سفينة المجتمع(7) من الاكتئاب إلى الانتساب


الخروق التي يمكن أن تتعرض لها سفينة المجتمع وهي تمخر عباب الحياة، وتواجه لججها العاتية وأمواجها المتلاطمة قد لا يأتي عليها العد والإحصاء، وهي متفاوتة في درجة خطورتها ومساسها بأمن تلك السفينة وجوهر كيانها ووجودها، فمنها ما يصيب الأعمدة والأضلاع، ومنها ما يتجاوز ذلك وغيره لينفذ منها إلى السويداء، وعندما يحدث ذلك، تكون السفينة على خطر من أمرها، لأنها وإن لم تكن قد شارفت آنئذ على الانهيار الوشيك أو الهلاك التام، فإنها تكون قد حملت في جوفها بذور ذلك والقابلية لوقوعه، في لحظة من ليل أو نهار، ما لم تحل دون ذلك عوامل مستكنة في باطن السفينة، أي في أعماق أهلها ممن يقع جمهور عريض منهم تحت طائلة تلك الخروق الموسومة بالخطر، ومن تلك العوامل ما يتعلق بطبيعة معادن أفراد ذلك الجمهور، وحظها من الصلابةأو القدرة على مقاومة عناصر الهزيمة والفناء. ومن الثابت الأكيد، أن الذين هم مؤهلون للذود عن السفينة، وفعل الممكن والمستحيل، لافتكاكها من بطش الأمواج، ولإطالة أمد الصراع، إلى أن تلوح في الأفق بارقة من بوارق الأمل والانفراج، إنما هم هؤلاء الذين يحملون في أعماقهم بذرة الصمود والاستعصاء، في وجه الأعاصير والأنواء.

إن كل من عايش أحوال سفينة الأمة العربية المسلمة وهي تعبر البحار والمحيطات، والمضايق والخلجان، وتخضع لتياراتها المتشابكة والمتضاربة، واستمع بعمق إلى هديرها، وما كان ينبعث منها من أصوات، ويتردد في فضاءاتها من أصداء، يشهد أن ظلمة حالكة السواد قد اكتنفتها من كل جانب، وحاصرتها حيثما ولت وجهها، في حركة فوضاوية بلهاء.

عرض أمر هذه الظاهرة المحيرة على أطباء وخبراء، ظلوا يبكون أهلها المساكين، ويأسون لحالهم، وبلغت صرخاتهم عنان السماء، وضجت لها الحيتان ووحوش غابات المعمور، وهم يبذلون صادق نصحهم وعصارات أفكارهم، من أجل تحريرهم من تلك الغمامة السوداء، التي طالما أمطرت على السفينة أصنافا من الجراثيم والحشرات، تنزل في زخات عنيفة مع المياه الملطخة السوداء، ونفثت في جموعها الغفيرة أبخرة كريهة اختنقت لها الأنفاس، فقضى جراء ذلك خلق كثير من الأطفال والعجزة والنساء، قلت: عرضت تلك الظاهرة الغريبة المحيرة على هؤلاء الأطباء والخبراء الصادقين الأوفياء، فأخذوا عينة من الغمامة السوداء، وأدخلوها إلى مختبراتهم للمعايرة والتحليل، ثم التفسير والتعليل، وإن كانوا بحكم رهافة حسهم، وفراستهم التي لا تخطئ، يتحسبون لما حدث، وكأنهم يرونه رأي العيان، وما أكثرما أنذروا قومهم لعلهم يرعوون أو يرجعون، فخرجت نتائج التحليل مصدقة لما عبر عنه هؤلاء الخبراء الناصحون، وما راكموه من بيانات وتقارير: إنه داء عضال، اسمه “الاكتئاب” “وله اسم علمي آخر في دوائر العلماء وأهل الاختصاص هو “داء فقدان الانتساب المكتسب”، وهو شبيه في كثير من خصائصه بداء فقدان المناعة المكتسب. لقد بدأت أعراض هذا الداء في الظهور والانتشار، وسط قطاع عريض من أهل السفينة: انكسافا في الوجوه ، وتغضنا في الأسارير، وشعورا بالغم والاختناق يلازمهم في أغلب الأحيان، يجثم على صدورهم كالكوابيس، ويطاردهم مطاردة الأشباح، كان السبب وراء هذا الداء الوبيل حسب تقارير المحللين والدارسين، تلاقح بين جرثومتين وبائيتين خطيرتين، “جرثومة الاستبداد والطغيان وفتح صنبور الشهوات”، و”جرثومة تجفيف منابع التدين المنهجي” اللتين فعلت فعلهما المدمر الرهيب، الذي لم يسلم منه صغير ولا كبير، وأخذت رقعة الإحساس بفقدان المعنى في الاتساع، وانعكس ذلك في نزوع طاغ للانتقال من الشعور بالانعدام، إلى معانقة الإعدام، سرى في طبقات السفينة سريان النار في الهشيم، فعم فيها البكاء والنحيب، وضجت تحت جبال من الأنين والآلام. تعطلت الطاقات، وتعرضت محركات السفينة لشلل شبه تام، وكادت تفرغ عنابر السفينة وخزائنها من التموين اللازم لإمساك أهلها بتلابيب الحياة، بدأ الأمل في التلاشي من أفئدة الناس، ولم يسلم حتى حكماء القوم، في بعض لحظات الإبحار، من شعور بالقنوط يداخل نفوسهم الملأى بالأمل واليقين، كادت السحابة السوداء تحجب عن السفينة أشعة الضياء وزرقة السماء، تضرع الشيوخ والشباب، وتضرعت النساء والأطفال، وتحلقت أنواع كثيرة من الطيور البيضاء في شكل صفوف وأسراب، تطلق أصواتا خاشعة شجية: آب آب آب، اهتز كل من في السفينة لهذا النداء العجيب، ثم انطلقت من أعماقها وطبقاتها أصوات عذبة شجية تتغنى بالقرآن، يتلو بعضها البعض في موجات من النور، {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أيمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}(القصص : 4- 5)، {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون}(الأنبياء : 18) بعد موجة حارة من البكاء، عادت البسمة إلى الوجوه والشفاه، انفتحت الأسارير، وسمعت من وراء ستار زغرودات القوارير، عم جنبات السفينة موجة من البهجة والسرور، سرى فيها دبيب غريب، تحسس الناس صدورهم ووضعوا أيديهم بانفعال شديد، وفي حركة لاشعورية على أفواههم، أبصروا أمرا عجبا: أبخرة سوداء تخرج من أفواههم، تلاشت شيئا فشيئا، أحسوا بعدها بخفة في الأجسام وصفاء في الأرواح، تبدلت السفينة غير السفينة، هبت عليها رياح طيبة ذات ربيع ، تحمل بين جوانحها حبوب اللقاح، وورودا بلون الدم القاني تحمل ألف جناح وجناح، انقشع جزء هام من السحابة الدكناء، {فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا}(الرعد : 19)، لقد  ولى زمن الاكتئاب، وجاء زمن الانتساب، سيقت السفينة إلى مرفأ أمين لترمم منها الأضلاع، وتكسى ألف شراع وشراع، حينها ركض خلق كثير بأرجلهم  في نهر شديد العذوبة والصفاء، ليتخلصوا مما علق بأجسادهم واستكن في أرواحهم من بلاء، هفت النفوس واشرأبت الأعناق، تسأل العز والأمان، من خالق الأكوان ومنزل الأرزاق.

د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>