ظاهرة العزوف عن القراءة: خطوات للعلاج


تمهيد:

مما لا شك فيه، أن وجود ظاهرة العزوف عن القراءة في مجتمع من المجتمعات، يعبر عن خلل عميق في بنائه الثقافي والحضاري، وينبئ في ذات الوقت عن أزمة حقيقية، خليق بها أن تؤرق المسؤولين عن تدبير الشأن العام بمختلف شعبه وقطاعاته، نظرا لما تحمله من عوامل الضعف والتثبيط لمسار ذلك المجتمع، ولما تمثله من تهديد لكيانه بالضمور والانقراض ولو بعد حين، ذلك بأن القراءة هي التي تختزن سر الفعل الحضاري، وسر التوهج والخصوبة فيه. ويكون حظ المجتمع من التفتق والقابلية لاطراد التطور والنماء، بقدر حظه من رسوخ فعل القراءة واتساع نطاقه حتى يكون بمثابة السلوك العام الذي لا يستثنى منه قطاع أو مكون من المكونات، أو فئة من الفئات، ويكون حظ ذلك المجتمع من الشلل والتعويق، أو ضعف الفاعلية ونضوب الحيوية، بقدر شيوع واستحكام تلك الظاهرة فيه.

ومما لاشك فيه أيضا أن الأسباب والعوامل وراء هذه الظاهرة الخطيرة، التي تحمل صفة الجائحة، عديدة ومتنوعة، وأن الكشف عنها من طرف الدارسين، قد تم بشكل يوفر الوضوح، ويسمح بوضع استراتيجة محكمة لتجاوز تلك الظاهرة والفكاك من تداعياتها الخطيرة وآثارها المدمرة.

ويحاول هذا المقال استجلاء خطوات العلاج لهذه الظاهرة في ضوء الوعي بتلك العوامل والأسباب، وبناء على الأركان الكبرى التي تتحمل مسؤولية شيوعها واستفحالها في الأمة، أو مسؤولية تفاديها وعلاجها، من قبيل البيت أو الأسرة، والمدرسة والمجتمع، والإعلام، وسائر ما له علاقة بتأطير الناس، من مؤسسات وجمعيات، ومراكز ثقافية وغير ذلك.

أولا: خطوات علاج الظاهرة: أو الأدوار المنوطة بمؤسسات المجتمع :

1- دور البيت والمؤسسة الأسرية:

يمثل البيت والأسرة المحضن الأساس، والمجال الحيوي الذي تتكون فيه عادة القراءة لدى الأطفال الذين سيؤول أمر المجتمع إليهم عندما يستوون كبارا راشدين، ومن ثم بات من أولى أولوياتها أن تضطلع بدورها كاملا في زرع البذور والفسيلة الأولى لملكة القراءة وتعهدها سقيا وتشذيبا وتهذيبا، بما يضمن استمرار الفاعلية في البناء المعرفي لدى المجتمع، وتحقيق التفوق في رهان التفوق والبقاء، في ظل عالم يقاس فيه شأن الأمم بمتوسط الزمن الذي يستغرقه أفرادها في القراءة، فكيف يمكن للأسرة أن تضع حجر الأساس في عملية تمثل ميسم الحضارة الإنسانية بامتياز؟

أ- إعطاء القدوة والمثال من الآباء ومن في حكمهم داخل الأسرة:

فما دامت عين الطفل معقودة على أبويه، بالدرجة الأولى، في اقتباس القيم وامتصاص العادات واستلهام نموذج العيش والسلوك، فلا مناص من قيامهما بواجبهما في بناء شاكلته بحيث يكون الارتباط بالقراءة عنصرا من عناصرها وحاجة ملحة من حاجاتها، وتتحقق القدوة من الأبوين إذا ما أعطيا من نفسيهما المثال في حب الكتاب والحرص على صحبته ومجالسته تمثلا لقول المتنبي: “وخير جليس في الأنام كتاب”، ومن خلال إحلاله المكان المحترم المرموق ضمن محتويات البيت، بحيث يكون ذا جاذبية وحسن تنسيق، ومحل عناية واهتمام.

ب- تهيئة المناخ المناسب الذي تترعرع فيه ملكة القراءة:

ولن يكتمل هذا الدور إلا إذا هيأ الوالدان في البيت جوا مفعما بمظاهر القراءة والإقراء، بشتى الوسائل والصيغ، مع مراعاة المستويات النفسية والعقلية التي يتدرج عبرها الأطفال، فإذا ما كان هذا الجو متسما بالتنوع  والغنى، وبالمثابرة وطول النفس، كان ذلك كفيلا بإدماج الأطفال في عالم القراءة من أبوابه الواسعة. ولا بد أن أؤشر في هذا المقام على خاصية فريدة يتميز بها البيت المسلم، وتدخل في بنائه الروحي والوجداني ونسيجه الثقافي، بحيث تمثل علامة فارقة تطبع المناخ الذي تتخلق فيه عادة القراءة ومهاراتها لدى الطفل المسلم: إنه القرآن الكريم الذي يصدح به في جنبات البيت وزواياه بأصوات خاشعة مفعمة بالإيمان، مزينة بأعذب المقامات والألحان، محفوفة بملائكة الرحمن.

ويؤكد الدارسون في هذا المقام على أهمية القص أو رواية القصص، والحكايات للطفل، وهو لا يزال في مراحله العمرية الأولى، ليتشبع ذهنه ووجدانه بالمفردات والأصوات التي تمكن من إيقاظ وعيه اللغوي، وتفتيق قدرات النطق والتعبير، المكنونة في كيانه الصغير.

وما ينبغي لنا أن نغفل في هذا المقام، الجهد الذي يجدر بالأسرة أن تبذله في إعداد الإنسان القارئ، وذلك بصد أو التصدي لنزعة الهيمنة والاستفراد التي يمثلها التلفزيون تجاه الأطفال، والتي يوشكون أن يتحولوا معها إلى مجرد علب للتخزين، أو أجهزة سطحية للاستقبال السلبي الباهت، والاستماتة في جعل الكتاب يصمد في البيت لاكتساب الأطفال إلى صفه، ولإيثار صحبته على صحبة أي شيء عداه، إلا إذا كانت هذه الصحبة مزكية لصحبة الكتاب.

2- دور المدرسة في غرس عادة القراءة والتحصين ضد العزوف:

تتحمل المدرسة عبءا كبيرا فيما يتعلق بتنمية نزوع الطفل نحو القراءة وتزويده بالآليات المنهجية السليمة التي تحفظ عليه مكاسبها، وتمكنه من قطف ثمراتها، فإذا كان الطفل يخرج من حضن الأسرة مزودا بأبجديات النطق والتعبير، فإن المدرسة تحمل على عاتقها مهمة صقل تلك الأبجديات والاتجاه بها نحو النضج والتكامل، يؤهلها في ذلك ما تملكه من رؤية منهجية، وخبرة علمية تتعلق بنفسية الطفل وقدراته ومواهبه.

إن المعلم وهو يأخذ بيد تلميذه على طريق التمرس بفعل القراءة وكشف عوالمه ورموزه وأسراره، لا بد أن يكون عارفا بعالم الطفولة والمراهقة وأن يأخذ بعين الاعتبار ما ينتابها من أحوال ويحيط بها من أوضاع، ويحركها من دوافع وأشواق، إنه ما أشبه المعلم في هذا السبيل بالوالدين وهما يأخذان بيد طفلهما ليوقع خطواته بثقة وثبات على أرضية صلبة، وليستقل بعد حين معتمدا على نفسه في التعرف على العالم من حوله.

إن امتلاك ناصية الكتاب وأخذه بقوة لا يتأتى إلا إذا وفرت المدرسة شروط ذلك بإعداد المعلم الكفء القدير، وتصميم البرامج والمناهج الدراسية القائمة على التوازن والإحكام، وتهييء الفضاءات الغنية، من إرساء للخزانات المدرسية، وتنظيم للتداريب والمسابقات، وإقامة للنوادي والأوراش التي تسهر على تنمية الإبداع لدى التلاميذ.

وإذا كان المقام لا يتسع لبسط دور المدرسة في تنمية الفعل القرائي لدى الناشئة، فليكن التركيز على أهم العناصر التي تحول دون السقوط في آفة العزوف عن القراءة، وذلك من قبيل الإحسان في بناء البرامج والمقررات، بالأخذ في الحسبان أهمية الكتاب عند ذلك البناء، وكذا تصميم الزمن المدرسي، بكيفية تحول دون الإجحاف بحق الكتاب في المنظومة التعليمية التربوية، ومن ثم بحق التلميذ في الكتاب، وذلك بالحيلولة دون نزعة الملء والشحن التي ينظر من خلالها للتلميذ على أنه مجرد وعاء مجرد من المواهب والقدرات، فما أكثر ما يكون حجم البرامج والمقررات ومنهجية بنائها وبالا على أجيال المتعلمين، وذلك بجعلها كتلا جامدة تجثم على صدر التلميذ، وتعوقه عن حرية التنفس والحركة التي تضمن تجدد الهواء في رئتيه والدماء في عروقه وشرايينه، وجميع كيانه. وما أكثر ما يجني المعلمون على المتعلمين، بافتقادهم للمهارات العليا في فن التعامل مع إمكانيات هؤلاء ومواهبهم، فنكون أمام مواد خام غنية لم تجد من يحسن استثمارها وتوظيفها فيما هي مؤهلة وميسرة له.

إن على المدرسة أن تجعل من المكتبة فضاء حيويا ومحورا هاما يستقطب اهتمام التلاميذ، ويشحذ قدراتهم ويستثير مكامنهم ومكنوناتهم، وذلك بجعله عنصرا حيويا لازما ومندمجا في مسار التربية والتكوين والبناء. ومما لا شك فيه، أن تحقيق هذا المطلب والتهييء له على صعيد المدرسة يقتضي إعادة النظر في بنيتها بحيث يكون القسم فضاء مساعدا على جعل الكتاب عنصرا مندمجا في ذلك الفضاء، وذلك بمحاربة الاكتضاض الذي يحرم كثيراً من التلاميذ من فرصة التدرب على التعامل مع الكتاب بسببه.

3- دور المجتمع المدني والجهات الرسمية في تلافي العزوف أو التصدي له:

يكمن دور المجتمع المدني والجهات الرسمية  في هذا المضمار، في توفير كل ما من شأنه أن يساعد على تنمية نزوع أجيال المتعلمين والطلاب، بل وسائر الفئات العمرية والاجتماعية، نحو حب المعرفة والاطلاع، ويدخل في هذا الإطار ما ينبغي أن تقوم به الدوائر الرسمية والمجالس المحلية ودور الثقافة والجمعيات الثقافية من دعم وتوجيه للحركة العلمية والفكرية والثقافية، من خلال:

- بذل جهود مستميتة وجبارة من أجل محو الأمية عمن لا يزالون يرسفون في أغلالها، لتوسيع نطاق القراءة ولو على الأمد المتوسط أو الطويل، فضلا عما يشكله نجاح تلك الجهود من دعم لوجستي للناشئة التعليمية التي تحتاج إلى التحفيز والتعزيز من طرف آباء يشكلون سندا قويا لها بحكم امتلاكهم لأسرار الحرف ومفتاح المعرفة.

- استثمار أجهزة الدولة لكل البنيات التحتية المتاحة، وجميع الموارد البشرية الموجودة في الساحة، من أجل رفع مستوى القراءة وتوسيع نطاقها على حد سواء.

- العمل على إصدار طبعات شعبية للكتب العلمية والتثقيفية وتوفيرها بسعر رمزي، لتكون في متناول مختلف الشرائح الاجتماعية في المجتمع، لهدم الحواجز والموانع الحاجزة بين الكتب والناس.

- جعل تضمين المخططات العمرانية للمكتبات ودور الثقافة ضمن شروط القبول والمصادقة عليها، في موازاة مع بيوت الله عز وجل، حتى تكون موارد الثقافة ومناهل العرفان قريبة من أفراد الشعب.

- قيام جمعيات آباء وأولياء التلاميذ بدورها كاملا في رعاية القراءة ورفع مستواها، من خلال إبرام شراكات مع المدارس والمؤسسات التعليمية، تحدد أهدافها بدقة، ويختار أطرها ومدربوها بعناية فائقة، بما يحقق نقلة نوعية في ردم الفجوة الفاصلة بين القراءة والمجتمع، ودرء الوحشة بين المواطن والكتاب.

4- دور الإعلام في معالجة مشكلة العزوف عن القراءة:

دور الإعلام في حالة توظيفه التوظيف البناء، يمكن أن يكون دورا فاعلا في الترويج لأهمية القراءة، وفي التشجيع على الإقبال عليها بتقوية الدوافع إلى ذلك، من خلال استخدام وسائل جذابة وبرامج هادفة، تبرز بشكل ملموس ثمرات القراءة ومردودها الجيد على مستوى إنضاج الشخصية وشحذ قدراتها الإبداعية. ويمكن للإعلام بجميع أنواعه وروافده من صحف مكتوبة، وخاصة ما يتعلق فيها من ملاحق أدبية أن تسهر على رعاية الإبداع، شريطة بعدها عن التحيز والمحاباة والإسفاف الذي يركب متن الإيديولوجيات الجوفاء، ومن قنوات تلفزية يمكن أن يتخصص بعضها بقضية الكتاب باعتباره من ثمرات القراءة المنهجية الهادفة، وذلك من خلال عرض تجارب القراة والكتابة لجمهرة من الكتاب والمبدعين، يكون من شأنها أن تسلط الأضواء الكاشفة على ما اكتنف مسارات هؤلاء من معاناة، ومن تلاقح مع تجارب الحياة.

خــاتـمــة:

في ختام هذا الموضوع المختصر حول قضية حضارية كبرى بامتياز، في حياة الأمم والشعوب بشكل عام، وفي حياة الأمة الشاهدة بشكل خاص، لا بد أن نؤكد على قضية جوهرية في شأن القراءة، تتمثل في أن ينابيعها الثرة وتياراتها المتدفقة لن تصفو مجاريها ويعذب مأخذها إلا إذا تمحورت حول اسم الله الأعظم، جل جلاله، أي إلا إذا كانت باسم الله، وكانت النية التي تحدو أصحابها خالصة لوجه الله الذي وجه هذه الأمة المسلمة إلى فعل القراءة باسمه تبارك وتعالى في أول آية نزل بها الروح الأمين عليه السلام على قلب خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>