للغات أسرار، قد تتفاوت فيما بينها بلاغة وفصاحة، لكن يبقى السر قائما في كل لغة على حدة، حتى تكون المعجزة ثابتة وواضحة، مصداقا لقوله تعالى: {واختلاف ألسنتكم وألوانكم}. ولعل من أسرارها العلاقة الوطيدة بينها وبين الفكر، فاللسان ينبئ عما في الجَنان، كما قال أسلافنا.
وللأسماء -أسماء الأعلام؛ وهي من اللغة- دلالات لمن وعاها وأدرك أبعادها، ذلك أن لكل قوم معتقدات وعادات ومبادئ ومنطلقات في تسمية أبنائهم بأسماء معينة، واختيارها دون غيرها، ولقد كانت أقوام في القديم -ومنهم عرب الجاهلية- يسمون أبناءهم بأسماء ما يشاهدونه في الطبيعة من حيوانات أو نباتات أو جمادات، فيسمون أبناءهم بها، تيمنا أو تفاءلا.
ولأمر ما أصلح الرسول صلى الله عليه وسلم أسماء العديد من الأشخاص، لتحمل دلالات الخير بعد أن كانت حاملة لمعاني الشر، وبيّن أن خير الأسماء “ما عُبِّد وحُمِّد”.
ومن هذا المنطلق، كان المسلمون عربا وأعاجم، عبر تاريخهم وما زالوا كذلك، يجتهدون في اختيار الأسماء الدالة على ارتباطهم بجسم هذه الأمة، حتى ولو كانت هذه الأسماء أسماء أعجمية، أو عربية طبعتها العُجمة أو غلبت عليها. وإن كنا نرى في العصر الحديث، أسماء بدأت تطفو على السطح، هنا أو هناك، لا علاقة لها بما تعارف عليه المسلمون منذ القديم في هذا الباب، وهو مظهر من مظاهر ما أصاب هذه الأمة من وهن وضعف وتقليد للآخرين حتى في أسماء الأعلام.
والمغاربة من الشعوب الإسلامية التي يشهد التاريخ على أن الأسماء التي عُرفوا بها لا تدل فقط على التعبير عن انتمائهم لجسم هذه الأمة الإسلامية العظيمة، ولكن أيضا عن حبهم لرسولها الأكرم عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم.
فالأسر المغربية لا يكاد يخلو بيت منها إلا وفيها اسم “محمد” أو “أحمد” أو ما اشتقوه منها، ك “مَحمد” و”محمدي” و”حمادي” و”حمدون”، بل إن بعض الأسر يتعدد فيها اسم “محمد”، ويميزون فيما بينهم ب”الكبير” أو “الصغير” أو “الأوسط” أو بإضافة اسم آخر له ليصبح اسما مركبا، كـ”محمد رضا” أو ما شابه ذلك. بالإضافة إلى أسماء أخرى من نحو “الماحي” و”القاسم” و”طه” و”ياسين” ونحو ذلك. والملاحظ أن أغلب الأسماء عندنا ينادى بها، كما هي، مجردة عن كل اللواحق، إلا في حالة اسم محمد الذي يقرن دائما بالسيادة فيقال :”سي محمد”. بل حتى نداء الشخص الغريب غير المعروف باسمه عندنا، يكون ب “سي محمد” أو “الشريف”، وليس الشريف في عرف المغاربة إلا سليل الدوحة النبوية.
وعملا بالحديث السابق”ما عُبد وحُمد”، تعددت أسماء المغاربة التي من هذا القبيل من نحو : عبد الله وعبد السلام وعبد القادر وعبد الرحمن وعبد الكريم وغير ذلك، هذا بالإضافة إلى أسماء الأنبياء ك”إبراهيم” و”سليمان” و”يوسف” و”يحيى” و”موسى” ونحو ذلك.
ولعل من يقارن أسماء المغاربة التي هي من هذا القبيل مع أسماء غيرهم من الشعوب الإسلامية، يجد هذا واضحا للعيان، مما يعني أنه لا يخلو من الدلالات المشار إليها آنفا، وهي حب المغاربة للنبي العدنان صلى الله عليه وسلم.
ومن الطريف أن يلاحظ المتمعن في أسماء المغاربة، التي لها طابع أمازيغي، الظاهرة نفسها، فمن قبيل ما حُمِّد في اللسان الأمازيغي: “مُحَند”، و”موح” و”موحا” التي ليست إلا “مُحمد”. و”مَحَنْد” و”حمو” اللذان يعنيان “مَحمد”. وأما ما عُبد فنجد أسماء من قبيل: “عَكَّى” التي تعني “عبد الكريم”، و”عقا” التي تعني “عبد القادر”، و”عسو” التي تعني “عبد السلام”، و”علاَّ” التي تعني “عبد الله”، و”رحو” التي تعني “عبد الرحمن”، وهكذا.
وكل هذه الأسماء موجودة بكثرة عند المغاربة الأمازيغ.
كل هذا، على بساطته -وغيره كثير- يدل على تشبع المغاربة بحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإدراكهم العميق -وإن كانوا في أقصى المغرب- أنهم جزء أساسي من هذه الأمة الإسلامية العريقة.
فمتى تتقد هذه الجذوة من جديد في أحاسيس أجيالنا الحالية، لنعبر من جديد، وبشكل عملي، في لغتنا وأسمائنا وسلوكاتنا وتشريعاتنا ومعاملاتنا، عن حبنا لرسولنا عليه الصلاة والسلام، وانتمائنا الأصيل لهذا الدين!!
د. عبد الرحيم بلحاج