هوية الأمة : ألم يانِ الأوان للوفاء بأماناتها؟!


تمهيـد:   

إن أمتنا الإسلامية أمة متميزة  بين الأمم بمقوماتها وخصائصها، أنشأها الله سبحانه وتعالى لتؤدي رسالتها في الوجود كما قال عز وجل: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}(البقرة :143) فالمولى سبحانه هو الذي جعلها كذلك، وأعدها لتقوم بدورها في الناس. فهي وسط في كل شيء، في التصور والاعتقاد، وفي التعبد والتنسك، وفي القيم والأخلاق، وفي التشريع والتنظيم، وفي السياسة والاقتصاد… فهي أمة ذات رسالة عالمية، وضعها الله تعالى في مقام الهداية للناس كافة، وهذا معنى قوله جل وعلا: {كنتم خير أمة اخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله}(آل عمران : 110). وهي أمة خالدة بخلود رسالتها وكتابها، فهي باقية مادام في الدنيا قرآن يتلى..

ومن ثم كان من عناية الله تعالى لها أن تظل فيها  فئة تحيى على الحق وتموت عليه، قال عز وجل: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}(الأعراف : 181)، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال  طائفة من  أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك))(رواه البخاري من حديث  المغيرة بن شعبة).

وإنما تستطيع  هذه الأمة أن تثبت وجودها، وتؤدي رسالتها وتتبوأ مكانتها تحت الشمس إذا تمسكت بهويتها، وحددت مرجعيتها العليا، ورفضت الجمود والتقليد، وجسدت الإسلام في أخلاقها وأعمالها بصدق وإخلاص للمولى سبحانه.. ولم يصرفها حب الدنيا وإرادتها عن ذلك. لأن حب الدنيا وإرادتها وإيثارها على الآخرة هو رأس كل خطيئة، يقول الحق تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوايعملون}(هود : 15- 16) بل هو سبب الوهن الذي يحيق بها برغم كثرة أعدادها كما بين ذلك حديث (القصعة) المشهور.

ضياع هوية الأمة فقدان لرساليتها:

ولعل  أخطر ما تواجهه الأمة اليوم  هو هذا الكيد الممنهج من الخارج والداخل الذي يستهدف طمس هويتها، وسلبها شخصيتها الإسلامية التي حباها الله إياها، وتطويعها للتغريب شيئا فشيئا. وصدق الله العظيم إذ يقول: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل ان هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا  نصير}(البقرة : 120)  هذا التغريب الذي صَدَّعَ اليقين في القلوب، وهَوَّنَ من شأن الإيمان، وجعل الناس عندنا ينحنون لأقوام حاربوا الله ورسوله، بل وأعجبوا بهم. فتولوا عنهم الإساءة إلى دينهم وأنفسهم، وتتابعت هذه الإساءات في العقود الأخيرة، واتسع نطاقها، وفشت بين الخاصة والعامة جهالات غريبة بالدين، وجهالات أغرب بالحياة العامة، فإذا الأمة التي بقيت دهرا طليعة مرموقة ترجع القهقرى، وتلاحقها الهزائم، ويهون وجودها عليها وعلى الآخرين. وإن الخزي الذي تعاني منه اليوم  بمجموعها، ما هو إلا بسبب الالتزام ببعض الكتاب والكفر العملي ببعض، وهو ما حذر منه القرآن الكريم عندما قص علينا سبب خزي الأمم السابقة وتواطئها على المنكرات، وإيمانها ببعض الكتاب وكفرها ببعض، حتى لا تنتقل العدوى للمسلمين، فقال عز وجل: {أفتومنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا}(البقرة : 85).

والذي لا ينبغي أن تعذر فيه الأمة اليوم بحال من الأحوال  تفريطها في هويتها، ومقوماتها الأساسية المكونة لخصوصيتها من دين ولغة وتراث وثقافة وتاريخ… وكلها أمانات تحرم خيانتها،  قال جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}(الأنفال : 27)، بل يحرم الانشغال عنها والاشتغال بما لا يتقدم عليها في ميزان الشرع ، وفقه الأولويات وفقه المقاصد.. فهذه المكونات هي المميزات للكيان الإسلامي، والتي بدونها تفقد الأمة وجودها الروحي لا وجودها الشبحي. وما قيمة الأشباح  بعد زوال الأرواح؟ قال تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}(الأنعام : 122). إن ذلك مما تشتد الحاجة للمرابطة فيه بقوة لدفع الأذى عن الذات، وضمان عافيتها من الأدواء والفيروسات..

من أهم ركائز هوية الأمة وثوابتها التي تحتاج إلى المحافظة على آماناتها :

1- أمانة المحافظة على الإسلام:

وهو دين الأمة، وأساس انتمائها، ولا هوية لها بغيره، فهو محور حياتها وروح وجودها، وسر بقائها، وصانع حضارتها، ومكون وحدتها. قال عز وجل: {ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}(آل عمران : 84)، وقال عز من قائل: {إن الدين عند الله الاسلام}(آل عمران : 19) وقد قال الفاروق رضي الله عنه : نحن كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز من غيره أذلنا الله. وحفظ أمانته يستوجب تنزيل  دستوره الخالد وتفعيله، فهو عماد الحياة، وأساس التعليم والثقافة،. إنه كتاب الله المجيد الذي يعلم ويقوم، ويهدي ويرشد، {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المومنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا}(الإسراء : 9)، تتغير الشرائع وهو لا يتغير، وتتبدل الأنظمة وهو ثابت لا يتحول، {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}(الحجر : 9)، فكلما أحس الإنسان بالإفلاس في حسه ونفسه، عاد إلى القرآن فتعلق بأسبابه، ووقف ببابه يملأ من نوره قلبه، ويطمئن بسكينته جنبه، ويصلح بدوائه عيبه {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}(المائدة : 17- 18). فواجبنا نحو القرأن  العظيم المسارعة بالتقاء الهمم والتحام العزائم لإعادة هذا الغريب الكريم إلى داره وأهله، بعد تلك الغربة القاسية التي جنينا من ورائها الذل والهوان.. وأيضا تنزيل السُّنة البيان لامتلاك الوعي بالمنهج النبوي في الإصلاح، وإدراك مراحله بدقة ومقاصده في كل مرحلة، ومرونته في التعامل مع الواقع في تلك المقاصد، أمرا ونهيا، ورخصة وعزيمة، بحسب الظروف والأحوال.

2- أمانة المحافظة على اللغة العربية:

إن اللغة هي وعاء التفكير قبل أن تكون وسيلة للتعبير، وهي بما تمتلكه من مفاهيم ومصطلحات -هي خلاصات لعقل الأمة، وتجاربها- أداة للفعل الحضاري، والتشكيل الثقافي. إنها وعاء الهوية ووسيلة التواصل بين الأجيال، هي التراث والحاضر والمستقبل..

لكل هذا كانت ولا تزال مستهدفة من الآخر في عملية التدافع. فالأمة التي تلغي لغتها من مصادر التلقي، هي أمة متوقفة حضاريا عن الامتداد والإبداع.. ومهزومة ثقافيا، و ستستمر هزيمتها وتحاصر رسالتها إلى العالم طالما أن أبناءها يفكرون بأوعية الآخرين، وتمثلات أفكارهم في أذهانهم من خلال لغات الآخرين.

قال عز وجل: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}(يوسف : 2)، وقال سبحانه: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}(الزخرف : 3)، فاصطفاء الله تعالى اللغة العربية لتكون لغته سبحانه في مخاطبة البشرية في النبوة الخاتمة التي انتهت إليها أصول الرسالات السماوية جميعا، يعني امتلاكها أبعادا لغوية أو ثقافية وعلمية وحضارية ممتدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فالعربية لها من الخصائص والصفات والقدرات التعبيرية ما لا تمتلكه أي لغة أخري. فهذا الاختيار بلا شك تشريف لها بين سائر اللغات، وتكيف لها بأداء وتوصيل الخطاب الإلهي للناس بما هي أهل له.

لكن واقع العربية اليوم في أمتنا تتحكم فيه اللغات الأجنبية منذ عهود الاستخراب، وإنه لمن العار أن تكون لهذه اللغات الصدارة في كل شيء تدريسا وإدارة وإعلاما وتداولا… فغدا أغلب مثقفينا يفكرون بها ويتسابقون لتمثل قيمها الثقافية والإبداعية. فأصبح لزاما أن تعود الأمور إلى نصابها، وترد الحقوق إلى أصحابها، ويفك عن العربية طوق النجاة. وتستعيد عافيتها بما يضمن صحة التلقي. ولا شك أن ذلك سيدفع في اتجاه كشف الغمة عن الأمة، ونبذ الزيف الثقافي، وتحصين الذات من ويلات الاغتراب الفكري والمسخ الحضاري..

3- أمانة المحافظة على التراث المستنبط من الوحي أو الخادم له:

ليس تراث الأمة الإسلامية وساما على صدرها، تزهو به  كما يزهو  امرؤ عادي  بشيء يزينه. وإنما التراث بالنسبة للأمة الإسلامية ضرورة حياة وأساس بقاء. فهو بالنسبة لها وجودها المادي والأدبي كله. ونعني به ماضينا العلمي والفكري والأدبي والحضاري،وما أسديناه للعالم ونلنا به مقاما عليا.

فنحن نرى أنفسنا في تراثنا، ونثبت وجودنا بالحفاظ عليه، ونحترم شخصيتنا حين نتحاكم إلى شرعه. ونستبقي شرفنا حين نقدم للعالم  هذا التراث رحمة عامة وإنسانية متجردة وانعطافا إلى الله تعالى وزلفى إليه. فقد كان الإسلام ولي هذه النعم، وينبوع ذلك العطاء،

واليوم تتوالى الهجمات بقوة من الداخل والخارج على هذا التراث، طمعا في تقويضه واستصدار مقوماته، والتشكيك في فاعليته، والحط من قدره تحريفا للكلم عن مواضعه، واقتلاعنا من جذورنا، وجذبنا إلى ملل ونحل غريبة عنا، هازئين بمن صنعوا أمجادنا، وأحيوا ذكرنا في العالمين.

وأمانة الحفاظ عليه اليوم تقتضي أن نحصنه من كل غزو وافد أو مستنبت يتوخى العبث به أو الإسفاف.. فالثقة فيه مدخل لازم لبذل الوسع لحمايته وإعماله..

4- أمانة المحافظة على الثقافة الإسلامية:

إن الثقافة بمفهومها الواسع هي مناخ الهوية، والثقافة الجيدة الغنية هي صورة الأمة، وأمارة عظمتها. والسلطة مهما قويت لا تعد شيئا طائلا ما لم تكن جزءا من حضارة الأمة ومعرفتها وتفوقها.. وإنه لا  يستهين بأثر الثقافة إلا أبله.

وقد لاحظنا كيف تُمَكِّن الأمم القوية لثقافتها عندما تسيطر على الأمم الضعيفة، وكيف تُجْلي آلاتها العسكرية بعد أمة من استضعافها، وتبقي على نبتة ثقافتها المسومة لحين سلب الوجدان والعقول، بعد نهب الثروات والمحصول.. ومذ أفلح الجُهَّال في بلادنا ممن تسمموا بها، وعبثت أصابعهم بمصالحنا، اضمحل العلم وانزوى أهله، ودب الانهزام إلى ذاتنا في كل ميدان.

فثقافتنا في محنة بالنظر إلى حالنا، وتردي قيمنا الفنية والإبداعية. و اختلاط  المعارف الدينية بالمدنية والخرافية، باتت بحاجة إلى نظر فاحص واختيار لبيب..

فلابد من إعادة الرشد إلى حياتنا الثقافية، وتمكين أولي الألباب من فصل الغث عن السمين، وتمييز الخبيث من الطيب، وتجلية الإسلام دون تحريف أو مغالاة..

5- أمانة المحافظة على التاريخ الهجري:

لقد تُنوسي التاريخ الهجري، وذُكر التاريخ الغربي، وأمسى الاحتفال به رأس كل عام سُنَّة محترمة، وعادة  محفوظة.. وتمكن الغزو الثقافي الغربي من إهانتنا على هذا النحو. أما التاريخ الهجري الذي يؤرخ لبداية التاريخ الإسلامي، الذي يفصل بين عهدين مختلفين كان المسلمون قبلها أفرادا مطاردين لا يُعترف لهم بكيان مادي ولا أدبي. فلما انتقلوا إلى المدينة قام لهم مجتمع بَيِّنُ الملامح، ونهضت لهم دولة تمتلك كل السلطات. هذا التاريخ تدحرج إلى النسيان والنكران..

ألا وإن أمانة حفظه تستلزم ضبط الوقائع والأحداث به، وإعلانه تاريخا رسميا للأمة في كل مجالات اشتغالها، ومقدما على التاريخ الغربي إن اقتضى الأمر بيان الموافقة. فالتقويم القمري يرتبط بعقائدنا، وعباداتنا السنوية، ويعد بعد تحديد الهجرة رمزا لدعوتنا، وتجاهله تجاهل لهذه الحقائق، وتهديد للإسلام واستطالة على رسالته ومسيرته، بل فصل للماضي عن الحاضر..

سلامة الفطرة  حصن لحفظ الهوية:

إن هذه المقومات وغيرها مما يكون هوية الأمة، لا تضمن بقاءها واستمرارها في الواقع إلا إذا  حافظ المسلمون على فطرتهم التي فطروا عليها، ولم تمتد إليها أعراض التشوهات المفسدة لصبغتها. قال عز وجل: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(الروم : 30). فأساس الفطرة العقل الحصيف، والقلب السليم: فحصافة العقل توجب احترام الحقائق، وإدراك الواقع دون نقص أو زيادة، ورفض الأوهام والخرافات، والوقوف بالظنون عند حدودها فلا تتحول النظرية إلى يقين مثلا، وضبط الأحجام المادية والأدبية للأشخاص والأشياء، فلا يجمح الخيال بها إلى فوق أو تحت.. وسلامة القلب تعني إنسانا لا يعبد نفسه، ولا يقدم أثرته، ولا يتحامل على الآخرين، تعني إنسانا يشعر بأن الحياة حقه وحق غيره على سواء. فلا معنى للحقد والغش والافتراء وتلمس العيوب للأبرياء ومحاولة الصعود على أنقاض الخصوم، أو من نرى نحن أنهم خصوم.

فذلك هو جوهر الفطرة السليمة، ومعدنها الغالي،  {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون}(البقرة : 138) وما من أحد يفقدها فقد خسر نفسه ولن يعوضه شيء. وللفطرة السليمة سماتها البارزة في العقيدة والشريعة. والحق بطبيعته لا يتعدد. ولعل أول معلم في دين الفطرة هو أن يعرف المرء ربه الواحد معرفة صادقة، ويؤسس معه علاقة وطيدة..

ومن المحزن حقا أن نجد اليوم بعض التشوهات التي حصلت في فطر مجموعة من الناس، أعقمت عندهم خصوبة الإصلاح في الأرض، ونأت بهم إلى الإفساد فيها، فتحاملوا على الحق بالباطل، وأسرفوا في تسويغ المنكر، وحرفوا الأصل حسا ومعنى.. فانقلبوا من غير خلق شريف أو مسلك قويم.. مصداقا لوعيد إبليس {ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام ولآمرنهم فليغيرن  خلق الله}(النساء : 119).

فحماية الفطرة  وصونها عن العبث آكد الواجبات لحفظ الهوية وضمان بقائها واستمرارها..

{إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا}(المزمل : 19)

د. عبد الحفيظ الهاشمي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>