مع سنة رسول الله – من معالم المنهـاج  النبوي فـي  اختيار مسـؤولي الأمـة


من خـلال الحديث :

عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: ((إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها ))(1).

هذا الحديث يعتبر أصلاً عظيماً من أصول الإسلام في التكليف بالمهمات العامة المتعلقة بأمور الإمارة  ومصالح الأمة.

جاء هذا الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي ذر الغفاري رضي الله عنه في وقت انتشر فيه الإسلام وانتصر، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يـعيّـن الولاة على الأقاليم.

كان أبو ذر -جندب بن جنادة- يتمتّـع بمكانة محترمة تبوّأها عن جدارة.

لقد كان في الجاهلية من الذين يتألّـهون أي يتمردون على عبادة الأصنام  ويذهبون إلى الإيمان بإله واحد خالق عظيم.

وأول ما سمع برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جاء بدعوة تُـسفِّـه الأصنام  وتدعو من يعبدها إلى نبذها وإلى عبادة الله الواحد الأحد، أسرع إليه وسأله عن دعوته فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تيسّـر من القرآن الكريم  فأسلم من فوره فكان من السابقين الأولين إلى الإسلام(2). فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : “يا رسول الله بم تأمرني”؟ قال له صلى الله عليه وسلم : ((ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري))(3). قال : ((والذي بعثك بالحق لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد))  فدخل المسجد الحرام  فنادى  بأعلى صوته  :”أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله” ولعلّـها أول صرخة تحدّت كبرياء قريش.

وتتابعت مواقف أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الجاهرة بالحق والثائرة على الباطل. وكان مما أُثِـر عنه قوله : ((عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه))(4).

ربما يقرأ أحدٌ سؤالَ أبي ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم :((ألا تستعملني؟)) فيدرجه في هذا الإطار أي ثورة وتمرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 أولا : لـماذا سأل أبــو  ذر  هـذا الـسـؤال؟ :

لقد رُفِـعت أصوات فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهرت له بالقول وهي أصوات صرخت بالباطل في وجه الحق وإن ادّعت أنها تدافع عن الحق. وأبو ذر من هذه الأصوات ومن أصحابها بريء.

فما الذي قصده  إذاً من سؤاله؟

>  هل هو احتجاج على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

>  هل ظن أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آثر عليه غيره وإن كانوا أقلّ كفاءة منه؟

>  هل هناك اعتبارات غير الكفاءة ومصلحة الأمة والحق وجّـهت اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

>  هل رغب عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان أهلاً للمسؤولية فاستغرب ذلك منه؟.

>  هل يريد أبو ذر رضي الله عنه أن يستغل قربه ومكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلب منه الولاية وإن لم يكن لها أهلاً؟.

>  كل هذه الأسئلة وما كان على شاكلتها لا يكون الجواب عنها إلا بالنفي، والجواب بالإثبات لا يصح إلا إذا كان على سؤال يعْـكِـس مدى محبة أبي ذر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومدى توقيره وإجلاله له ومدى التزامه بتعاليم الإسلام، وكل فهم يُـناكِـد هذا ينبغي أن ينأى  المؤمن بنفسه عنه.

> لعله بهذا السؤال يعبِّـر عن وضع نفسه رهن إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا احتاج إليه في أمر الولاية، مع علمه بما فيها من المشقة واستعداده لتحمُّـلها ابتغاء وجه الله  وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.

> لا يخفى على أحد من المسلمين مدى محبة أبي ذر للإسلام ورغبته في خدمته في مرحلة الدعوة فلا جرم أن يساهم في خدمته في مرحلة الدولة.

لكن هل كل من يصلح للدعوة يصلح للدولة؟

> لعله كان يرى أن الولاية وما يكتنفها من المتاعب المتعلقة برعاية مصالح الأمة جهاد في سبيل الله تعالى وكانت له النية الصادقة في الإسهام فيه كما أسهم من قبل في الدعوة إلى الله وفي مجاهدة المشركين.. وإذا كان جهاد الدعوة وجهاد ملاقاة الأعداء بابه مفتوحاً لكل من أراد أن يشارك فيه بحيث كان التكليف بهما عاماً لا يستثنى منه إلا أولوا الأعذار، فإن الجهاد من موقع الولاية على أمور المسلمين يختار له رسول الله صلى الله عليه وسلم من يراه صالحاً له.

>  ولعل النفس المطمئنة التي كانت بين جنبي أبي ذر رضي الله عنه والقلب الزكي الذي كان يخفق بالخير وحب الخير للأمة، والقناعة والزهد والقوة في الحق والوقوف في وجه الباطل والمسارعة إلى الخير وغيرها مما عُـرف به أبو ذر رضي الله عنه وعَـرَف به نفسه..كل هذه الخصال جعلته يعتقد أنه مؤهل وصالح لهذه المهمة..

فالسؤال خرج من فرجة بين نظرته لنفسه ورغبته في خدمة الإسلام واعتقاده أنه صالح للولاية ومؤهل لها وبين عدم استعمال النبيّ صلى الله عليه وسلم له.

وأبو ذر رضي الله عنه على يقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار لكل مهمة من يصلح لها وتصلح له، وينفعه الله تعالى بها وينفع الله الخلق بوجوده فيها.

وبالتقسيم العقلي فإن عدم استعمال النبيّ صلى الله عليه وسلم له لا يخرج عن أحد أمرين:

- أن يكون أبو ذر أهلاً ومع ذلك لم يستعمله النبيّ صلى الله عليه وسلم. ويلزم من ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استعمل من هو دونه أهلية.

- أنه لم يكن أهلاً للولاية وإن ظنّ في نفسه ذلك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بأصحابه وبمؤهلاتهم وأنه أولى بهم من أنفسهم حُـكّـاماَ ومحكومين.

بين هذين الاحتمالين لا يحتار أبو ذر فيما يختار. فلا يمكن أن يعتقد الاحتمال الأول، يمنعه من ذلك إيمانه برسول الله صلى الله عليه وسلم وعصمته.

فلا يبقى إلا الاحتمال الثاني وهو أن يعتقد أنه غير صالح للولاية، يدلّـه على ذلك كثرة النصوص التي لا يمكن أن تغيب عنه والتي تنطق بعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قوله تعالى : {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}(النجم : 3- 4) وقوله تعالى : {النبيء أولى بالمؤمنين من أنفسهم…}(الأحزاب : 6).

كما لا تغيب عنه نصوص قرآنية كثيرة تمنع من تزكية النفس بل وتأمر بتوجيه التهمة لها كقوله تعالى : {فلا تُـزكّـوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}(النجم : 31) وقوله تعالى : {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمّـارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم}(يوسف : 53).

كما لا يغيب عنه التوجيه القرآني بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع أوامره وعدم التقديم بين يديه في قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}(الحجرات : 1).

إن هذا السؤال وجد في قلب أبي ذر رضي الله عنه دافعاً قوياً ووجد فرجة بين رغبته في خدمة الإسلام من أي موقع وبين عدم تكليف رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ووجد في لسانه صدقاً شهد له به رسول الله صلى الله عليه وسلم  في قوله : “ما أقلّـت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر”(5).

لقد كان الصدق مدار حياته كلها، صدق في السريرة وصدق في العلن وصدق في العقيدة وصدق في المواقف وصدق في الدعوة وصدق في اللهجة..

الصدق عند أبي ذر.. “جهر بالحق وتحدٍّ للباطل وتأييد للصواب ودحض للخطأ،

الصدق ولاء رشيد للحق وتعبير جرئ عنه وسير حثيث معه…”(6).

صدق عبّـر عنه بقوله : “ألا تستعملني؟”

أجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم جواباً خاصّـاً ومن خلاله  أجاب الأمة عن هذا السؤال الذي لا يخلو منه زمان، ووضع لها الأسس والضوابط لاختيار من يتولى أمور المسلمين.

- أما الجواب الخاص فإنه المتعلق بعدم استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبيذر وإخباره أن ذلك راجع لمانع فيه يمنعه من الاضطلاع بأمر الولاية وهو الضعف : “إنك ضعيف”.

- إذاً  فعدم استعمال أبي ذر لا يرجع إلى إهمال الكفاءات أو الغفلة عنها أو تقديم القرابات أو غيرها مما يجب على كل مسلم تنزيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ولا أخال أبا ذر ذهل عن ذلك.

- لقد سمع أبو ذر اليوم خبراً جديداً عن نفسه : “إنك ضعيف”، والذي أخبره به هو الصادق المصدوق… فمن الذي ينزه اليوم نفسه عن الضعف؟ بعد أبي ذر؟.

إن الاجتهاد في الدعوة إلى الله تعالى وفي الجهاد وفي العبادة وفي قول الحق دون الخوف من لومة اللائمين وغيرها من الخصال الحميدة،  لا يمنع عقلاً ولا شرعاً من وجود الضعف المانع من تحمُّـل المسؤوليات.

روى البخاري أن رجلاً(7) قال :”لقيت أبا ذر في الربذة  وعليه حلّة وعلى غلامه حُلّـة فسألته عن ذلك فقال ساببت  رجلاً (8) فعيّـرتُـه بأمّـه فقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم : ((يا أبا ذر، أعيّـرته بأمّـه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية…))(9) ومعناه فيك خصلة من خصال الجاهلية.  وحتى لو كان ذلك من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه فهي خصلة كانت باقية فيه رغم طول عهده  بالإسلام ورغم كل ما تمتّـع به من جميل الخصال. ولذلك سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم قائلاً : “على ساعتي هذه من كِـبَـر السن”؟ وهو سؤال يعكس تعجُّـبه من خفاء هذا الأمر عليه.

وكما خَـفِـيَـتْ عليه جاهليةٌ  كانت فيه،  خَـفِـيَ عليه ضعف لا يزال فيه،

وكما أخبره الحبيب صلى الله عليه وسلم بأنه امرؤ فيه جاهلية،  أخبره أيضاً بأنه ضعيف.

ثانيا : القوة والأمانة شـرطا تولي منـاصـب الأمـة :

ومن خلال خطاب أبي ذر خاطب صلى الله عليه وسلم  الأمة كلها فبيّــن الأسس والضوابط لاختيار من يتولى أمور المسلمين وهي :

>  القوة  التي بها يستحق الإمارة  فيأخذها بحقها،

>  والأمانة  التي بها يُـعطيها حقها،

فمن كان قويّـاً أخذ الولاية بحقها،

ومن عرف أنها أمانة وكان أميناً أعطاها حقها،

ومن جمع بين القوة التي بها يستحق الولاية وبين الأمانة التي بها يحفظ أمور الولاية كان أولى بها،

ومن كان ضعيفاً ضيّـعها ولو كان أميناً،

ومن لم يكن أميناً ضيّـعها ولو كان قويّـاً،

1- القوة :

إن القوّة شرط  أساسي فيمن ترشح لولاية شيء من أمور المسلمين،   ولا يمتلكها إلا من استجمع مؤهِّـلات محددة ومعيّـنة تربو على كل الذي تمتع به أبو ذر رضي الله عنه.

إن الولاية على أمور الناس ( السلطة)  تتوقف على اليد المطلقة والكلمة النافذة والأمر المطاع  في حدود الصلاحيات، إنها قوة السلطان -أو قوة القانون- ورعاية مصالح الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تتحقق إلا بهذا.

والوالي -صاحب هذه القوة- يحتاج إلى قوة في ذاته:

- قوة يكبح بها جماح النفس إذا رامت تعدّي  حدود الله تعالى أو الزيادة عليها في استعمال القوة انتصاراً  للنفس أو للقرابات.

- وتقمع النفس إذا قصّـرت في استعمال القوة لنصرة الضعيف أو لتأديب الشريف.

- هي قوة تُـعين على امتثال قوله تعالى : {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}(الرحمن : 7).

- هي قوة عبّـر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ((…وأيمّ  الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف فيهم تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد..))(10).

 2- الأمانة :

قوله صلى الله عليه وسلم : ((وإنها لأمانة))

إن المسؤولية ليست مغنماً، وموقع الوالي فيما أؤتمن عليه كموقع الولي من مال اليتيم إن كان غنيّـاً فليستعفف وإن كان فقيراً فليأكل بالمعروف(11).

إنها أمانة، وإخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر يقصد به التعليم والتصحيح… والأمة بحاجة إلى هذا التصور للمسؤوليات، فإذا كانت كذلكفلا يسألنّـها عاقل وإن سألها  فلا يُعطاها : عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وُكِـلت إليها وإن أُعطيتها عن غير مسألة أُعِـنتَ عليها))(12).

وعن أبي موسى  قال : دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي فقال أحد الرجلين أمِّـرْنا  يا رسول الله وقال الآخر مثله فقال صلى الله عليه وسلم : ((إنّـا لا نولّـي هذا من سأله ولا من حرص عليه))(13).

فهذا نهي صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طلب الإمارة  وتوجيه صريح للأمة لئلا تُـسنِـد الأمور إلى من يسألها وهي أحكام  تنسجم  انسجاماً تامّـاً مع الإخبار بأنها أمانة بل وتتفرع عنه. لأن من عرف أنها أمانة وأدرك خطورتها لا يُـتصوّر منه أنه يسعى إليها بل ولا يتمنّـاها(14). والنهي عن التمني أبلغ في التحذير من النهي عن الطلب.

وأما من حرص عليها فأولى ألاّ يُـعطاها  لقوله صلى الله عليه وسلم : ((إنّـا لا نولّـي هذا من سأله ولا من حرص عليه))(15). لأن حرصه عليها دليل على جهله بخطورتها.

إن جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حاسماً في موضوع الإمارة ولو سألها  رجل في منزلة أبي ذر رضي الله عنه، لأنه لا محاباة ولا تساهل في مصالح الأمة.

فمن لا يصلح لها لا يُـعطاها ويُـقال له أنت دونها كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : ((إنك ضعيف)).

وهذا مجال آخر من مجالات الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن الإمارة يُـختار لها من دلّــت سيرته على قوته وحسن سريرته : {إن خير من استأجرت القوي الأمين}(القصص : 26).

ثالثا :  الحكمة من النهي عن استعمال الضعفاء على أمــانات الأمـة :

والجمع في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين كون أبي ذر ضعيفاً وكونها أمانة دليل على أن الأمانة تتوقّـف على القوة وأن أكثر ما تضيع به الأمانات هو الضعف:

- ضعف المؤتمن أمام شهواته في جمع المال وكل ما تميل إليه النفس.

-  ضعف في نزوعه إلى الانتقام من أعدائه ومعارضيه  ومخالفيه…

- ضعف أمام الأحبة  إذا ما اقترفوا ما يوجب حـدّاً أو تعزيراً أو إذا ما حرصوا على ما ليس لهم بحق…هل يُـغضبهم ولو أدّى ذلك إلى انفضاضهم عنه؟ أم يرضيهم ولو على حساب حقوق الآخرين؟.

- ضعف أمام الأقوياء والشرفاء هل يتملّـقهم ويُـرضيهم استمالة لوجوههم وخوفاً من مواقعهم على موقعه؟ أم يأخذ الحق منهم حتى لو أدّى ذلك إلى انفضاضهم عنه أو انقضاضهم عليه؟.

إن الذين استسلموا لضعفهم واتّـخذوا الإمارة مغنماً واتّبعـوا فيها شهواتهم وأرضوا بمصالح الأمة وبحقوق الناس  أقرباءهم وأصدقاءهم واستمالوا بها وجوه الأقوياء والشرفاء إليهم وذهلوا عن حساب {يوم يجعل الولدان شيباً”}(المزمل : 16)… لا جرم يحبونها ويفرحون بها كما يفرح الرضيع إذا أُلْـقِـمَ الثدي ويسألونها ويحرصون عليها ويبذلون كل ما يمكن من أجل الوصول إليها ولا يستطيعون التخلي عنها ويكرهون ذلك كما يكره الرضيع الفطام: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : ((إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة))(16).

إن السلطة والمال عصب الحياة وقِـوامها للأمم والجماعات، فإذا اعتورهما الضعف والضلال تهددت مصالح الرعية وتعرضت للخطر، فكيف إذا اتُّــخِـذت السلطة وسيلة لجمع المال؟ وكيف إذا قُـدِّم المال من أجل الوصول إلى السلطة؟.

((وإنها يوم القيامة خزي وندامة))

السلطة أمانة ومسؤولية قلّ من يقدرها حق قدرها،

وحساب الله تعالى عليها عسير، ترتعد من هوله أفئدة وفرائص الأبرار.

يقفون بقوة الحق مع الضعيف وينصرونه مهما هان حتى يأخذ حقه كاملاً.

ويقفون بذات القوة ضد الشريف مهما عزّ حتى يأخذوا منه حق الغير كاملاً.

قوة في الحق يعدلون بها بين الخلق.

وأمانة يبذلون أقصى الوسع ليؤدوها إلى أهلها طاعة للحق.

خصلتان ضروريتان ليأخذوا  الإمارة بحق ويؤدّوا الذي عليهم فيها.

خصلتان من أخطأهما أو إحداهما كانت عليه خزياً وندامة يوم القيامة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

د. لخضر بوعلي

——–

1- مسلم كتاب الإمارة عن أبي ذر.

2- كان خامس خمسة أو سادس ستة دخلوا في الإسلام. اُنظر “رجال حول الرسول” خالد محمد خالد.

3- راجع قصة إسلام أبي ذر في صحيح البخاري كتاب المناقب باب قصة إسلام أبي ذر الغفاري.

4- رجال حول الرسول (أبو ذر)، خالد محمد خالد.

5- رجال حول الرسول، خالد محمد خالد.

6- رجال حول الرسول، خالد محمد خالد ص 47.

7- اسمه المعرور

8- يتعلق الأمر ببلال بن رباح المؤذن مولى أبي بكر.

9- البخاري، كتاب الإيمان باب المعاصي من أمر الجاهلية  وتمام الحديث :”…إنك امرؤفيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم”

10-

11- هذا كلام ينسب إلى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مستلهم من قوله تعالى :” فمن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف” من سورة النساء.

12- رواه الإمام البخاري في كتاب الأحكام، باب من  لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها.

13- صحيح البخاري كتاب الأحكام باب : ما يُـكره من الحرص على الإمارة.

14- حـديث عبد الرحمـن بــن سمـرة ورد بصيغة ” لا يتمنّـيـنّ” فــي رواية أوردها ابــن حجر فــي الـفـتـح ج 124/13.

15- حديث أبي موسى الأشعري السابق.

16- البخاري كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>