ومضات حديثية:المسؤولية في رعاية مصالح الأمة


عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الأعظم الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))(1).

 

ملاحظات عامة حول التركيب اللفظي للحديث الشريف :

1- يتوجه الخطاب إلى المسؤولين دون المسؤول عنهم ويتضمن وصية بالمسؤول عنهم لأن هؤلاء خوطبوا بنصوص أخرى من مثل قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم}(النساء : 58) وبقوله عليه الصلاة والسلام : ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني))(2).

- في موضوع الطاعة أمروا بطاعة  الإمام، وليّ أمرهم، وقد أشارت الآية الكريمة من سورة النساء إلى وجوب طاعة أولي الأمر في قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}(النساء : 58).

ولئن كان العلماء والمفسرون ذهبوا أكثر ما ذهبوا إلى القول بأن المقصود بأولي الأمر هم العلماء والأمراء إلا أن السياق القرآني يدفع نحو قصر المراد بأولي الأمر في الأمراء لقوله تعالى فيما قبلها : {إن الله يامركم أن تودوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّـا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا}(النساء : 56- 57). إن طاعة الله تعالى تجب بإطلاق وكذا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. أي أن طاعة الله تعالى تجب في كل ما أمر به في كتابه العزيز وتجب طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما بيّــن من معاني كتاب الله العزيز، ولكن طاعة أولي الأمر إنما وجبت تبعا لطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض أمراء بني أمية لما قال له أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله : {وأولي الامر منكم} فقال له : “أليس الله قد نزعها عنكم – يعني الطاعة – إذا خالفتم الحق بقوله : {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر}(النساء : 59).

وسواء امتثل هؤلاء أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فأطاعوا أولي الأمر منهم، فاستحقوا عن جدارة هذه الوصية أو لم يمتثلوها،  فإن القيام بالمسؤولية حق لله تعالى ومظهر من مظاهر طاعته وليست استحقاقا(3).

2- هذا الحديث الشريف ذكر أعلى مراتب المسؤولية  وهي مسؤولية الإمام الأعظم الذي قلده الله تعالى مسؤولية الرعية كلها : الغني والفقير، والصغير والكبير، والعالم والجاهل، والعاقل والسفيه، والأرملة واليتيم، والظالم والمظلوم… كيف ينصف الجميع وبخاصة عندما يكثر الظلم والعدوان وتتنوع طرائق الظالمين وحِـيلهم،  كيف يعدل بين الجميع في المغانم وفي المغارم، كيف يحنو على الجميع: المريض واليتيم والأرملة والثكلى والشيخ الفاني… كيف ينجز ما جاء في خطبة أبي بكر الصديق حين تولى الخلافة حيث قال : ((أيها الناس إني وُلّــيت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني..ألا إن الضعيف فيكم قويُّ عندي حتى آخذ الحق له..ألا وإن القويّ فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه..أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم))(4).

ولعلّ هذا ما جعل الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقضي الليل كله وهو يردد بالدموع قوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسؤولون…}(الصافات : 24).

ولا يخفى أن من عادة الوحي أن يرتب الأشياء ترتيبا لا يمكن أن يخلو من حكمة وأنه  يبدأ بما ينبغي البدء  به  فلا يقدم عليه غيره ومن الحكمة أن تلتقط مثل هذه الإشارات.. وتقديم مسؤولية الإمامة العظمى على غيرها فيه إشارة على عظمتها وخطورتها وضرورة العناية بها.

3- ذكر الحديث الشريف نموذجا من المسؤولية الجماعية التكاملية وهي مسؤولية الأسرة حيث يتم تقاسم المسؤولية بين الزوج والزوجة والعبد.

والاكتفاء في هذه المناسبة بذكر الأسرة لا يعني أنها المجال الوحيد للمسؤولية المشتركة وإنما ذكره لأمور في غاية الأهمية يتعيّن التنبيه عليها منها:

- إن من أحسن طرق التعليم ضرب المثال بما هو معلوم، ولما كانت الأسرة هي المحضن الذي تربى فيه كل إنسان، تمّ اختياره لإيصال الفكرة بكل وضوح ما دام أن موضوع المسؤولية لا يجوز أن يبقى مكتنَـفا بأي غموض.

- إن النجاح في مجال الأسرة يستحق أن يسمى نجاحا كما أن الخسارة فيه لا يمكن أن تعوّض، وإن الذين كانوا ضحية الإهمال الأسري يدركون أكثر من غيرهم  حجم المسؤولية التي يتحملها الزوج والزوجة كما يدركون العواقب الخطيرة التي تترتب عن التقصير في هذه المسؤولية.

4- في ذكر نموذج الأسرة إشارة إلى أن القيام بالمسؤولية من طرف شريك لا يعني بالضرورة الوصول إلى الأهداف المرجوة  من “الشركة”(5).

وفيه إشارة إلى احتمال التقصير من أحد الشركاء وأن هذا التقصير من أحدهم لا يبرر التقصير من بقيّـتهم للقاعدة القرآنية : {لا تزر وازرة وزر أخرى}(النجم : 37).

وفيه أن التقصير الفعلي من أحد الشركاء لا يكون حجة لشركائه للاقتداء به، بل لا بد من الثبات على القيام بما هو في الذمة لإبرائها لأن “الذمة عامرة بيقين فلا تبرأ إلا بيقين”.

وإذا كانت الأسرة، وعدد أفرادها محدود جداً، لا تحقق غاياتها التربوية والاجتماعية إلا إذا تكامل جميع أفرادها وقام كل واحد بما يتعيّـن عليه القيام به، فما بالك بالدولة التي يُـعدّ  أفرادها بالملايين… إن إصلاح المجتمع يتوقف ضرورة على التشارك وتضافر الجهود من قِبل الجميع…

إن المساهمة في الإصلاح ليس من شرطها أن يكون الإنسان في مواقع القرار بل يمكن أن تكون من أي موقع،  من الإمام الأعظم الذي تولى أمور كل الرعية إلى العبد الذي لا يملك حتى نفسه بل هو ملك لغيره والكل مشمول بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنت على ثغر من ثغور الإسلام فلا يُؤْتَـيَـنَّ الإسلام من قِـبلك)).

فلا يستهيننّ أحد بموقعه لأن الاستهانة بالموقع تؤدي إلى إضاعة المسؤولية المتصلة به، وتفويت لفرصة المساهمة في إصلاح الأمة.

إن موقعك شريف، وإنما يستمد  شرفه من ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم له ولا ينزع عنه شرفه نظرة الناس له ولا تضييعه ممن وكل به.

ما أكثر ما يضيّـع الناس المسؤوليات الملقاة على عواتقهم ويتطلعون إلى مسؤوليات أكبر ظناً منهم أنهم لا يساهمون في إصلاح الأمة إلا من خلالها(6).

إن قيام كل فرد من أفراد المجتمع بما ينبغي عليه القيام به يحقق فائدة جليلة وهي الاتفاق على تقدير المسؤولية واعتبارها أمانة لا يترفع عنها حاكم ولا محكوم و لا صغير و لا كبير وهو ما يشير إليه قول الحبيب صلى الله عليه وسلم : ((كما تكونوا يُـولّـى عليكم)).

5- لم يذكر الحديث الشريف ما بين هاتين المرتبتين من المسؤوليات وهي، بدون شك، كثيرة  ومتفاوتة الحجم والخطورة، فإذا ذكر الأطراف ذكر بالضرورة ما بينها.

6- إن الحديث الشريف اقتصر على ذكر حدود المسؤولية التي تؤثر على الغير سلبا أو إيجابا من مسؤولية الإمام الأعظم إلى مسؤولية الفرد في أسرته، ولم يشر إلى المنفرد الذي ليس حاكما ولا زوجا ولا أبا ولا زوجة ولا عبدا… وعدم ذكره في الحديث الشريف لا يعني إعفاءه من المسؤولية  بل هو مسؤول عن نفسه وجوارحه ووقته وماله وكل ما أنعم الله تعالى به عليه. وإصلاحه لنفسه مساهمة في إصلاح المجتمع.

والخلاصة أنه لا يعفى من المسؤولية حاكم ولا محكوم ولا موظف كبير ولا صغير ولا تاجر ولا أجير ولا أب ولا زوج ولا زوجة ولا عبد…فالكل في الإسلام مسؤول من موقعه، ومسؤوليته تأخذ حجم ما هو موكول إليه.

7- الحديث الشريف ذكر المسؤولية (الواجب) ولم يذكر الحق وذلك قد يكون راجعا إلى الأسباب التالية:

- لأن الواجب مقدم على الحق لقوله صلى الله عليه وسلم : ((أدّوا الذي عليكم واسألوا الله الذي لكم)).

- ليس من حق أحد أن يطالب بالحق قبل أن يقوم بما عليه من الواجب.

- لأن الحق ضمنه الحق سبحانه وأما المسؤولية فقد أنيطت بالعبد المكلف.

وما ضمنه الحق فلا يضيع، فلا داعي لذكره وأما ما أنيط بالعبد فمعرض للضياع لذلك احتاج إلى التذكير به والتحذير من إضاعته أو التقصير فيه.

قوله صلى الله عليه وسلم : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) مع التركيز على لفظ “كلكم” فيه فوائد منها:

- أن الأمة كلٌّ لا يتجزأ، وصلاحها يتوقف على صلاح كل أبنائها، فلا تصلح الأمة إلا إذا صلح الكل أو الجل. وإذا كثر فيها الخبث حلّ بها الهلاك وإن وُجِد فيها بعض الصالحين(7).

- وفيه تأصيل لمبدأ الاقتران الضروري بين المسؤولية والمحاسبة.

8- الحديث الشريف لم يذكر السائل وإنما ذكر المسؤولية والمسؤول، وموضوع المسؤولية وغيره من الموضوعات التي أشارت إليها نصوص الوحي الكريم إنما تستفاد من أصول الثقافة الإسلامية التي تقرر فيها أن المحاسبة في الإسلام دنيوية وأخروية:

والمحاسبة الدنيوية نوعان: شرعية وقدرية.

من المحاسبة الدنيوية الشرعية:

- أن من حق الرعية أن تسأل راعيها.

وعلى الراعي أن يقبل سؤال رعيته.

وإذا كان سؤال الرعية يتصل في الغالب، بل ويُـختصر في الغالب، في المطالبة بالحق، فإن المساءلة في الإسلام أكبر من ذلك وأقوم.. لأنها تجعل المساءلة طاعة ونصيحة ومحبة وولاء(8)…، بحيث لو أن المسؤول أعطى بعض أفراد الرعية حقوقهم وضيّـع حقوق غيرهم، لم يسكتوا عنه حتى يعطي كل ذي حق حقه.

ولو أنه أعطى كل ذي حق حقه ثم ضيّع حق الله تعالى فيما بينه وبينه لم يسكتوا عنه حتى يؤدي حق الله تعالى في خاصة نفسه(9).

إن المسؤولية تتوقف على عناصر متعددة ومتشعبة أقتصر على ذكر بعضها:

- القيادة الراشدة :وخلاصتها أن يُـوصِل القائد  من ولِـي أمرهم إلى ما فيه خير، وأن يجنبهم العواقب التي لا تحمد، قال صلى الله عليه وسلم:” إن شـرَّ الرِّعاء الحُـطمة”(10).

- النصح للرعية : والمقصود به كل ما تدل عليه الكلمة من الإخلاص والصفاء ولمّ الشمل… لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة))(11).

- عدم المشقة في الحكم وعدم الغش:  وهذا أمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى مزيد من البيان قال صلى الله عليه وسلم: ((من ولي من أمر المسلمين شيئا فشق عليهم شق الله عليه))(12).

- وقوله صلى الله عليه وسلم : ((ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة))(13).

إن ولاية أمر المسلمين، جلّـت أو دقّـت، إذا أطّـرها الرشاد والنصح للرعية بالتحديد السليم للمقاصد والغايات، وابتعدت في الحكم عن الميل إلى المشقة والإعنات، واجتنبت القصد إلى الغش فلن تعدم، لتحقيق ذلك، الوسائل والأدوات.

وإذا بالغ الراعي في تضييع رعيّـته رغم أدائها لحقه من الطاعة والمحبة والنصح،… فإن القدرة الإلهية قد تتدخل لإحلال النقمة به نصرة للمظلوم وتحقيقا لوعد القائل: “…لأنصـرنّـك ولو بعد حين”(14).

وإذا نجا من عقوبة الدنيا فلا: {إن يوم الفصـل ميقاتهم أجمعين}(الدخان : 40).

وحاشى أن يموت المظلوم ويبقى الظالم: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}(الشعراء : 227).

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصـالحات.

    د. لخضر بوعلي

——–

1- رواه البخاري في كتاب الأحكام  عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

2- البخاري كتاب الأحكام عن أبي هريرة رضي الله عنه.

3- ارتباط المسؤولية بحق الله هو ارتباط بالكمال فتطلب على وجه الكمال بينما ارتباطها بالخلق ارتباط بالناقص مما يدعو إلى طلبها على وجه ناقص ثم لا يمكن أن تكون استحقاقا لأن الناس ليسوا على درجة واحدة في الاستحقاق.

4- خالد محمد خالد  خلفاء الرسول ص 65 دار الفكر ط1، 1418هـ – 1997م.

5- وقد يكون هذا من بين الأسباب التي من أجلها شرع الله تعالى الطلاق مع شدة بغضه له، فإذا كانت العلاقة بين الزوجين بلفت درجة من السوء يتعذر معها التعاون على مسؤولية الأسرة فالفراق خير من بقاء لا ترجى ثمرته.

6- فقد عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الملك فأبى.

7- هذا مستخلص من قول السيدة عائشة رضي الله عنها “ّ أنهلك وفينا الصالحون؟ قال صلى الله عليه وسلم :” نعم إذا كثر الخبث”.

8- مستلهم من قوله تعالى : {…إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويوتون الزكاة وهم راكعون}(المائدة).

9- يتم ذلك طبعا بالنصح والموعظة ويرجع ذلك بالأساس إلى ما تُـكنّـه الرعية من حب الخير لراعيها.

10- البخاري في كتاب الأحكام وأن قصد به النبي صلى الله عليه وسلم راعي الغنم الذي يصعد بغنمه الجبال الشاهقة فيعرضها للتردي والتحطم إلا أن المعنى أكبر وأبعد ويشمل كل قائد وكل رعية.

11- البخاري كتاب الأحكام باب من استرعى رعية فلم ينصح عن معقل بن يسار.

12- المرجع السابق

13- البخاري كتاب الأحكام باب من استرعى رعية فلم ينصح عن معقل بن يسار.

14-  سنن الترمذي ،ابن ماجة، ومسند أحمد.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>