يستطيع المرء أن يجزم -في ضوء الكشوف العلمية المتلاحقة- أن معطيات علم النفس في جلّ نظرياته، لم تصل -بعد- عتبات اليقين الأولى. وثمة عبارة ذات بعد متهجي، نجدها في كتاب “طبيعة العقل” لسوليفان، تكاد تشكل سمة من سمات الفكر الوضعي في الغرب، في تألقه وسقوطه على السواء، تلك هي “أن مفهوم الدافع الجنسي عند فرويد مثلاً قد أريد به تفسير أشياء كثيرة جداً إلى درجة أنه لم يفسّر شيئاً محدداً”..
وهكذا -وفي ضوء هذا الاستنتاج الذي يقدمه سوليفان- يبدو أن مفهوم “العقل الكلّي” لدى “هيغل” قد أريد به -كذلك- تفسير أشياء كثيرة جداً في العالم إلى درجة أنه لم يفسر شيئاً محدداً. وتبدّل وسائل الإنتاج في النظرية المادية التاريخية، قد أريد به تفسير أشياء كثيرة جداً في التاريخ إلى درجة أنه لم يُفسّر شيئاً محدداً. وما يقال عن “المثالية” و”المادية” يمكن أن يقال عن “الوجودية” و”العبثية ” وسائر المذاهب الغربية على المستويات كافة.
إن بعداً نفسياً يكمن وراء هذه الرؤية التعميمية للكشوف ذات الطابع الجزئي. إن العالم أو الأديب أو الفيلسوف، وقد اكتشف بذكائه وجهده مفتاحاً من المفاتيح التي يمكن أن تسلط ضوءً على الوجود والتاريخ، يسعى إلى مدّ اكتشافه هذا لكي يغطي سائر مساحات الوجود والتاريخ، ومنحنياتهما الطويلة المعقدة المتشابكة.. إنه يريد أن يحتكر حق الكشف والتفسـير، ويحجب عن الآخرين حريتهم العقلية وحتى الوجدانية في أن يرحلوا هم أيضاً ويكتشفوا ويبتكروا نظريات ونظماً وأعرافاً.. وإنها لنرجسية ولا ريب هي أقسى أنماط النرجسية التي عرفتها مناهج البحث البشري وطرائقه.. إنها لتصل بهم -أو هكذا يخيّل إليهم- إلى عتبات الألوهية.. ولم لا؟ وهم يجدون من المعجبين والأتباع عباداً خاضعين يسبّحون بحمدهم ويمنحونهم طائعين صفة التوحّد والتفرّد؟
ها قد آن الأوان لكي يقول العلم كلمته.. إنه ليس ثمة حقيقة في أي ميدان من ميادين العلم المادي أو الحيوي، يمكن أن يفسّر بها العالم كلّه.. إنها تفسّر جانباً من العالم.. نعم.. ولكن ليس العالم كلّه بأية حال من الأحوال.
ليس هذا فحسب بل إن العلماء المحدثين يؤكدون على أن المفاهيم الأساسية التي أمكن استخلاصها وعزلها حتى الآن، والتي تعتبر وافية إلى حدّ معقول، لهي تلك المرتبطة بالعلوم التي تعالج الظواهر المادية الجامدة. ونقول “وافية إلى حد معقول” لأن نظريتي “النسبية” و”الكم” قد أدّتا حديثاً إلى إعادة النظر في هذه المفاهيم ومراجعتها مراجعة شاملة. وعلى أية حال فقد أثبتت تلك المفاهيم نجاحاً فذاً خلال القرون الثلاثة الماضية، وإنه لمن المشكوك فيه أن يؤدي هذا النجاح إلى نجاح أية تجربة تقوم على تطبيق هذه المفاهيم في مجالات لا تقبل بطبيعتها التطبيق فيها.
وهكذا فإنه حتى العلوم التي تعالج الظواهر المادية الجامدة لم تسلم معطياتها من الهـزات، فها هي ذيّ نظريتا “النسبية” و”الكم” تغيران وتبدلان في الكثير من المفاهيم العلمية السائدة، والمسلمات، أو هكذا كانت توصف، والتي صمدت خلال القرون الثلاثة الماضية. ومهما يكن من أمر فإن النجاح النسبي لمفاهيم التعامل مع المادة يجب ألاّ يدفعنا إلى الطريق الخاطئ وهو قسر تجربة الحياة على الخضوع للمفاهيم نفسها، لأن مصير قسر كهذا هو الفشل بعينه، وهذا يؤكد ضرورة البحث عن معايير أخرى لدراسة علوم الحياة، وإلى التسليم بالغائية كمفتاح لكثير من الأبواب الموصدة ها هنا: {فقال لها وللارض اِتيا طوعاً أو كرهاً، قالتا أتينا طائعين}، {وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحـهم..}.
أ. د. عماد الدين خليل