بين يدي القانون
… القانون اليوم قانون الالتفاف والانفضاض، الإنسان.. خلق لجنة عرضها السموات والأرض، خلق ليسعد إلى أبد الآبدين، خلق لينعم بالقرب من رب العالمين، هذه الجنة لها ثمن، ومن طلب الجنة من دون عمل فهذا ذنب من الذنوب. ما ثمن الجنة؟ أن يأتي الله بك إلى الدنيا، وأن تتعرف إليه من خلال الكون، الذي ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، بل إن الكون مظهر لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، فإذا تعرفت إلى الله، وتعرفت إلى منهج الله، واستقمت على أمره، الله عز وجل يمنحك من كمالاته، ودائما وأبدا أقول: مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحب الله عبدا منحه خلقا حسنا، إذن الإنسان الذي آمن بالآخرة، وآمن بأنه مخلوق للجنة، ونقل اهتماماته إلى الدار الآخرة، لابد له من عمل يصلح للعرض على الله، لابد له من عمل صالح يكون وسيلة للقرب من الله، لذلك الله عز وجل في قرآنه الكريم، لم يعتمد الصفات التي يتفاضل بها بنو البشر، بنو البشر يرجح بعضهم بعضا بقيمة المال، بقيمة القوة، بقيمة الذكاء، بقيمة الوسامة، لكن الله سبحانه وتعالى جعل مرجحين اثنين لا ثالث لهما، المرجح الأول هو العلم فقال تعالى : {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}(الزمر : 10) وقال أيضا {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}(المجادلة : 11) والمرجح الثاني هو العمل الصالح قال تعالى : {ولكل درجات مما عملوا}(الأنعام : 133).
الدعاة إلى الله أول المعنيين بالقانون
هذا القانون ، قانون الالتفاف والانفضاض.. يعني من؟ يعني المؤمن الذي عرف الله وعرف منهجه، وأراد أن يتقرب إليه. أعظم عمل على الإطلاق من دون استثناء هو الدعوة إلى الله، لقول الله عز وجل {ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}(فصلت : 32) أي ليس في بني البشر إنسان أفضل عند الله {ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}.. هذه الدعوة إلى الله هي فرض عين وفرض كفاية،. فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الكل، فرض الكفاية أن يتبحر الإنسان في العلم الشرعي، وأن يتعمق فيه، وأن يتفرغ له، وأن يملك الحجج والبراهين ورد كل الشبهات، هذه الدعوة إلى الله بهذا المستوى فرض كفاية، إذا قام بها البعض سقطت عن الكل. ولكن الدعوة إلى الله التي هي فرض عين دعوة من نوع آخر، هو أن تدعو إلى الله في حدود ما تعلم، ومع من تعرف، ليس غير… هذه الدعوة تؤكدها الآية الكريمة {والعصر إن الانسان لفي خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}(سورة العصر) فالتواصي بالحق ربع النجاة، بل إن الله سبحانه وتعالى حينما يقول : {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}(يوسف : 108) فالذي لا يدعو إلى الله على بصيرة، وقالوا “على بصيرة” بالدليل والتعليل، ليس متبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن متبعا فهو لا يحب الله لقوله تعالى : {قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم}(آل عمران : 31).. وصلنا إلى القانون الذي يحتاجه الدعاة إلى الله، يحتاجه أي إنسان يحتل منصبا قياديا، يحتاجه الأب، تحتاجه الأم، يحتاجه المعلم، يحتاجه رئيس الدائرة، يحتاجه مدير المستشفى، يحتاجه رئيس الجامعة، يحتاجه أي إنسان يحتل منصبا قياديا.
معادلة الالتفاف والانفضاض
متى تنجح باختصاصك؟ حينما يلتف الناس حولك، حينما يحبونك، متى تنجح في تحقيق أهدافك؟ حينما يتطلع الناس إليك بعين المحبة والتقدير. إذن متى يلتف الناس ومتى ينفضون؟ هذا هو محور هذا اللقاء الطيب، بل محور القانون الذي نسميه قانون الالتفاف والانفضاض. ما الذي يحكم هذا القانون؟ يحكم هذا القانون هذه الآية الكريمة قال تعالى {فبما رحمة من الله لنت لهم}(آل عمران : 159) أي بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد كنت لينا لهم، أي أن الإنسان إذا اتصل بالله اكتسب منه الرحمة، إن اتصلت بالرحيم تشتق منه الرحمة، إن اتصلت بالحكيم تشتق منه الحكمة، إن اتصلت بالقوي تصبح قويا، لا تلين ولا تتضعضع، ولا تتطامن، بل تكون قويا تأخذ حقك بشكل واضح صريح، إذن إن اتصلت بالحكيم تكون حكيما، بالرحيم تكون رحيما، بالقوي تكون قويا، بالعدل تكون منصفا، فأي صلة بالله عز وجل، من ثمار هذه الصلة اشتقاق الكمال، فالآية التي هي قانون الالتفاف والانفضاض هي قوله تعالى : {فبما رحمة} وهذه الباء عند النحاة باء السببية، كقوله تعالى : {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم}(النساء : 159) هذه الباء باء السبب، إذن {فبما رحمة من الله لنت لهم} يعني يا محمد بسبب رحمة استقرت في قلبك كنت لينا لهم، هذه الرحمة التي في القلب انعكست لينا في التعامل مع الآخرين، هذا اللين في التعامل مع الآخرين سبب التفافهم حولك، وإقبالهم عليك، ومحبتهم لك، وإخلاصهم إليك، لذلك أكبر رأس مال يملكه الإنسان هو أن يحبه الناس، وأن يثقوا به، وأن يتفانوا في تلبية دعوته التي يبغي منها وجه الله، فلذلك الدعاة إلى الله، وأي إنسان يحتل منصبا قياديا، يريد أن يحقق أهدافه، أن ينصاع الناس له، وأن يلتفوا حوله، فعليه بهذه الآية {فبما رحمة من الله لنت لهم} اتصلت بنا فاشتققت منا الرحمة، انعكست الرحمة لينا، كان اللين سبب التفاف الناس حولك، عندئذ حققت الهدف من حياتك ورسالتك، فاستعنت بهؤلاء الناس، الذين أحبوك وقدروك ورفعوك.
ماذا يقابل هذا القانون؟ قال {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}(آل عمران : 159) لو أن الإنسان انقطع عن الله عز وجل، ليس في قلبه رحمة، في قلبه قسوة {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله}(الزمر : 21) لا يرحم الآخرين، يبني مجده على أنقاضهم، يبني غناه على فقرهم، يستغلهم، يستعلي عليهم، يؤذيهم {ولو كنت فظا غليظ القلب} يعني لو كان الإنسان منقطعا عن ربه، فكان في غلظة ما بعدها غلظة، هذه الغلظة انعكست نفورا من الناس فانفضوا من حولك، سبحان الله وكأن الآية معادلة رياضية:
اتصال، رحمة، لين = التفاف
انقطاع، قسوة، غلظة = انفضاض
{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر}.
… هناك فكرة دقيقة، لعلي أختم بها هذا اللقاء الطيب، الله عز وجل يخاطب سيد الخلق وحبيب الحق وسيد ولد آدم، والذي آتاه الله الوحي والقرآن والمعجزات، يقول له: أنت أنت أنت يا محمد، مع كل هذه الخصائص، ومع كل هذه الميزات، ومع كل هذه الكمالات {لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} فكيف بإنسان ليس معه وحي ولا معجزات ولا قرآن، وليس فصيحا، وليس جميل الصورة، ومع ذلك هو فظ غليظ، لذلك “من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف، ومن نهى عن منكر فليكن نهيه بغير منكر” هذا قانون الالتفاف والانفضاض الذي يحتاجه كل الدعاة إلى الله، بل كل أب وأم، بل كل معلم، بل كل من يحتل منصبا قياديا..
إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى..
لخبير الجمال الدعوي الدكتور محمد راتب النابلسي