اليوم، ونحن ندلف إلى القرن الحادي والعشرين باتجاه المليار والمائتي مليون عدداً من المسلمين.. نتذكر الدعوة في أيام محنتها الأولى.. زمن الأفراد القلائل المضطهدين.. المطاردين.. ونتذكر الرجل الأول الذي صنع المعجزة.. ونتذكر وعد الله سبحانه بالنصر المبين: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد}.
لقد زرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وزرع معه أصحابه وتابعوه بإحسان، عبر عشرات السنين ومئاتها، وهم يحرثون الأرض ويلقون البذور.. وكانت أبصارهم وعقولهم معلّقة بالله.. ما من كبيرة ولا صغيرة إلاّ وهم يتحركون بها من خلال رؤيتهم الإيمانية التي ترى وجود الإنسان في العالم امتداداً لإرادة الله وقدره.. وكانوا يريدون إعادة صياغة العالم.. قلب تربته العفنة التي غطت على مساحاته من أجل أن تكون الثمار نظيفة قوية معطاء: (كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفار).. ولقد كان الحصاد كثيفاً حقاً: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها؟!}..
ورغم أن العالم اختار أن ينقلب على صوت الإسلام، ويمرق عن صراطه المستقيم.. رغم أنه أعاد قلب التربة ثانية لكي يغطي جغرافية القارات كلها بالعفن والفساد فلا يتبقى ما هو نظيف طاهر.. رغم هذا وذاك.. فإن طائفة من أبناء هذه الأمة ستظل تواصل الطريق.. وسيظل أملها معلقاً بالله..أن تعيد صياغة العالم ثانية وثالثة ورابعة إلى أن يتحقق النصر الموعود: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين. هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين. ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مومنين}..
إننا ونحن نتحرك في بدايات قرنٍ جديد نتذكر أنه ما من قرن تصرّم من القرون التي اجتازها الإسلام في رحلته الطويلة، كان أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فيه عاجزين عن الحركة.. عن أن يعملوا شيئاً.. إنه ما من قرن إلاّ وتبرز منهم طائفة ترفع الراية، وتتحرك بإيمانها ويقينها الوضيء لكي تثبّت مواقع هذا الدين وتمدّها إلى الآفاق.
لقد كانت رحلة القرون السابقة مسيرة صعبة حقاً.. باهظة الثمن كثيرة التكاليف.. لكنها كانت في الوقت نفسه كثيرة العطاء.. وإنه ليس ثمة جزاء كبير دون جهد كبير.. ولقد بذل أبناء هذا الدين عبر كل قرن الكثير الكثير جهداً وعرقاً ودماً ودموعاً.. فلم يذهب هذا كلّه عبثاً.. لقد آتى ثماره، وملأ الدنيا عطاءً سخياً..
الدعوة التي كانت تتحرك في طرقات مكة خائفة وجلة، أصبحت تقول كلمتها بمواجهة عروش كسرى وقيصر فتسقطها وتذّلها.. الصلوات التي كانت تقام سراً في دارٍ منزوية في أنحاء أم القرى.. صارت تقام على شواطئ الأطلسي وتخوم الصين.. يطمح أصحابها أن يجتازوا البحار والتخوم لكي لا تبقى ثمة مساحة في العالم لا تقام فيها صلاة ولا يذكر فيها اسم الله.. المستضعفون في الأرض الذين كانوا يطاردون ويضطهدون ويعذّبون ويجلدون.. غدوا قادة العالم وساّسته وحكامه.. كتاب الله الذي كان يُحكم بالقتل على قارئة أصبح دستور الدنيا ومرشدها.
لقد كانت مسيرة باهظة حقاً، ولكن الجزاء كان كبيراً !!
إنه ما من أمة في الأرض تعرّضت عبر مسيرتها التاريخية لما تعرّض له أبناء هذا الدين.. لقد تكالبت عليهم قوى العالم كلّه، منفردة حيناً، مجتمعة أحياناً.. وإنها لتختلف وتتنازع وتتناحر فيما بينها إلاّ حينما يكون الأمر قتالاً لهذا الدين، فإنها تأتلف بقدرة قادر لكي تضرب عن قوس واحدة..
منذ معركة الأحزاب حيث تجمع اليهود والوثنية العربية والبدو والمنافقون وحتى اللحظات الراهنة حيث تتجمع معسكرات الصهيونية والصليبية والاستعمار الجديد، كان الإسلام هو هدف الخصوم والبؤرة التي تجذبهم إليها.. ولكنه كان دائماً هدفاً صعباً، وكانت دائماً بؤرة شديدة الجمر، تعرف كيف تحرق الأيدي التي تمتد إليها لكي تطفئ سراجها الوهّاج..
إن هذا الدين يحمل سرّ بقائه المعجز وديمومته المؤكدة.. ولن تستطيع قوة في الأرض أن تمحق كلمته من الوجود.. لقد حدث عبر القرون التي اجتازها الإسلام، أن هزمت كل الحشود والطوابير التي سعت لاغتيال هذا الدين، وبقي الإسلام صامداً، متفرّداً، ماضياً لتحقيق كلمته في الأرض.
أ. د. عماد الدين خليل