الخروق التي يمكن أن تصيب سفينة المجتمع لا حصر لها ولا عد، ومهما تفاوتت تلك الخروق في حجم خطورتها ودرجة تهديدها لأمن السفينة وسلامتها، فلا يمكن من منطلق مفهوم التراكم والشمول أن نستهين بأي منها، مهما دق حجمه، فمعظم النار من مستصغر الشرر كما يقال.
غير أن هذه الحقيقة لا تحجب عنا بحال، حقيقة أخرى، وهي أن أعمال وتصرفات ركاب سفينة المجتمع قد تتخذ من حيث نتائجها وعواقبها شكل خروق أكبر، من شأنها أن تسرع من وتيرة انتشار المياه في أطراف السفينة وطبقاتها، ومن ثم في تقريبها من مآلها المحتوم: غرقها بما فيها ومن عليها.
من تلك التصرفات التي شدد رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام على شناعتها وخطورتها: “شهادة الزور” و”قول الزور”، حتى إنه عدها من أكبر الكبائر التي توبق أصحابها في النار، وما ذلك إلا لأنها تفعل فعلها المدمر بنسف المجتمع، وتمزيق شبكته، وخلط أوراقه، وإرباك سيره، لأنه يفتقد على تلك الحال، لميزان الحق والعدل الذي تنتظم به الأحوال، وللبوصلة الهادية إلى بر الأمان. عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور،ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت))(أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما).
فيكفي أن نعلم أن الزور يعني فيما يعنيه: الكذب والباطل والبهتان، وتحريف الحقائق وتضليل الناس عنها(1)، لنعلم مدى الفوضى التي تكتنف سفينة المجتمع، ومدى الاضطراب الذي يعتري أهلها، نتيجة انسداد الأفق، وغموض الرؤية جراء انعدام خريطة الإبحار، وجهل ركاب السفينة أو قطاع كبير منهم بحقيقة ما يجري بداخلها من تحركات. فوضع هؤلاء لا مفر من أن يتأرجح بين أمرين أحلاهما مر: إما الغفلة والانخداع، وإما القلق والارتياع، ويزيد من حدة القلق وتفاقم الغموض ما يعتلج داخل سفينة المجتمع من مذاهب و تيارات، وما يتصارع فيها من أئمة وزعامات، يسعى كل منها إلى إثبات جدارته وأحقيته بقيادة السفينة وسوقها في الاتجاه الذي يريد،وفق ما يراه من رؤى واختيارات، وما يرفعه من رموز وأفكار وشعارات، قد تكون محل إيمان واعتقاد، وقد تكون مجرد مادة للمزايدة في سوق المشاريع المعروضة، لبسط اليد على البلاد والعباد.
إن عملية الزور، بشقيها: الشهودي والقولي، بقدر ما تشيع في مجتمع من المجتمعات، وبقدر ما تتغلغل في سلوك الأفراد والجماعات، وما يتحرك فيها من أحزاب، وما ينشط من منظمات، حتى تصير ميسما له وعلامة عليه، بقدر ما يكون حجم التسمم الذي يلحق تلك الكيانات، ولن يدعها الزور حتى يغتالها ويذرها قاعا صفصفا أو أثرا بعد عين.
إن من وجوه إعجاز جوامع الكلم والمفاهيم في مفهوم الزور الذي يحذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث النبوي الشريف، أن يتسع مدلوله ليشمل حركة الإنسان قولا وفعلا في كل القطاعات والميادين، بل إنه ليتجاوز القول والفعل إلى ما يشكل المرجعية الحاكمة لكل منهما، ذلك أن فعل الإنسان في هذه الأرض، من منطلق كونه خليفة فيها، إما أن يقوم على قاعدة راسخة من الحق والعدل، تؤهله للتمكين، لإصلاح الأرض ومن فيها، وإما أن يقوم على شفا جرف هار من الزور، لإفساد الأرض ومن عليها.
فمفهوم الزور -إذن- يشمل المرجعية شموله لما ينبثق عنها من ممارسات وسلوكات، تمس جميع الميادين والقطاعات، إنه ينسحب على التربية والتعليم، والطب والقضاء، وعلى الأدب والفن، وعلى الكشف العلمي والطبي، والإبداع الفني والأدبي، وغيرها، كما أنه ينسحب على الشأن المحلي انسحابه على الشأن الوطني والدولي. وتقودنا هذه الحقيقة الصارخة إلى القول بكل يقين: إن ما يجري من مآسي وويلات في عالم اليوم، إنما هو نتاج وبيل لسلسلة نكدة، قوامها شهادة الزور وقول الزور، تطوق أعناق الناس وتغل أيديهم، وتخنق أنفاسهم، بسبب ما تقذفه في أجوائهم من فيروسات فتاكة وجراثيم قاتلة.
وإذا كان المقام لا يتسع لتفصيل القول وتعديد النماذج والأمثلة، فليكن مثالنا في هذا المقال منصبا على الزور الذي يمكن أن يطول عملية الانتخابات لاختيار نواب الشعب الذين يمثلونه ويقودون سفينته.
إن هذه العملية أو هذا الاستحقاق -كما درج الإعلام على تسميته- قد يتضافر فيه شقا عملية الزور، أي قول الزور وشهادة الزور، ليقوما بعملية خرق واسعة النطاق لسفينة المجتمع، إنها عملية رهيبة لا تدع مقوما من مقومات تلك السفينة إلا أتت عليه فقوضته. إن عملية الزور وهي تنخر هيكل السفينة وتعشش في ألواحها كما يعشش السوس في جذوع الشجر، من شأنها أن تفرز ربابنة مستهترين، غرباء عن الشعب، نائين عن همومه وقضاياه، منبتين عن أصوله وجذوره، فلا هم يعبأون بسلامته ومصيره، ولا هم يملكون ذرة حياء تجعلهم يكفون عن العبث بمقدرات الشعب، واللعب بمصيره.
هؤلاء الربابنة المستهترون لا يمكن إلا أن يكونوا جزاء وفاقا لركاب مستهترين كانوا وراء تصدرهم لغرفة قيادة السفينة، إما باختيارهم لتلك المهمة الصعبة التي لا يقدر عليها إلا الأقوياء الأمناء، وإما بإقرارهم بانتدابهم لها بغير وجه حق.
فعملية الزور شهادة وقولا يمكن أن تتجلى أمام أعيننا بكل سفور:
> من خلال البرامج المنمقة والوعود الكاذبة التي يحمل وزرها زعماء سوء، يتلفعون بعباءة الديمقراطية التي أصبحت تتسع لكل من هب ودب من الأدعياء، في ظل غياب معايير صارمة تقصي من ساحة التباري من يعتبرون وبالا عليها ووصمة عار في جبينها، وعائقا في طريق التقدم والنهوض.
> ومن خلال هشاشة في الوضع الاجتماعي لدى كتلة كبيرة من المجتمع، مقرونة بهشاشة في الوعي الديني والاجتماعي، تفضيان لا محالة إلى حالة من العمى السياسي الذي لا يتورع المصابون به عن بيع ذممهم لقاء دراهم معدودات، لمن لم يتورعوا عن رهن مصير الوطن، لوضعية التخلف والوهن، لقاء تحقيق نزوات آنية، وشهوات رخيصة.
إن عملية الزور المركبة والعريضة تلك، لا يمكن إلا أن تكرس الواقع الهجين، وتزيد السوء سوءا. إنها إقدام بنية وسبق إصرار، على دفع سفينة المجتمع المنكوبة إلى المجهول، وإمعان في إطالة أمد المعاناة والعذاب الذي ينبغي تحرير الشعب من ظلاله السوداء.
إن سفينة مجتمعنا ستظل عرضة للعواصف الهوجاء، ما لم يسلم قيادها لربابنة مخلصين رسخت أقدامهم في تربة هذا الوطن العريق، ووعت قلوبهم دروس الدين والتاريخ، وتشبعت نفوسهم بحب الله وكتابه ورسوله والمؤمنين، وتحلوا بأخلاق العدالة والإنصاف، التي لا تضيع معها كرامة إنسان مهما كان وضعه، شريطة أن يبرأ من الخيانة والكيد للوطن.
إن على كل فرد من أفراد سفينة المجتمع، أن يستشعر خطورة الهزات، وشراسة الرياح الهوجاء التي تهب عليها من كل اتجاه.
وما أجدر الناس أن يستحضروا هيبة الرسول العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يكرر: ((ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور،ألا وقول الزور))، رحمة بأمته عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وإشفاقا عليها من أن تسقط فيه، فينفرط شملها وتتحطم سفينتها في لجج بحر الحياة. وصدق الله القائل: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}(الحج : 20).
د. عبد المجيد بنمسعود
———-
1- قال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليُتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال فلا شيء من الكبائر أعظم ضرراً منها ولا أكثر فساداً بعد الشرك بالله. انظر فتح الباري جـ 10، ص 497