تربية النبي  ورئاسته للعائلة(1)


إن أفضل ممثل لصفة “الرب” لله تعالى هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي هو أفضل من يمثل هذا الاسم من الأسماء الحسنى حتى بين سائر الأنبياء، لأنه كان صاحب فطرة متميزة. ولا شك أن الصحابة الذين تلقوا التربية منه كانوا أفضل الناس من بعد الأنبياء. فليس في الإمكان رؤية أو تنشئة نماذج أخرى من أمثال أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي رضوان الله تعالى عليهم.

ليس هؤلاء فحسب، بل لا يمكن الوصول إلى مرتبة أي صحابي آخر، لأن هؤلاء تربوا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهناك من تربوا في نفس جو التربية النبوية، وكانوا مثل الدرر المنثورة في العصور التي جاءت بعده، حيث نستطيع أن نقول إن هؤلاء أيضا ربوا من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبحوا مدار فخر الإنسانية. هؤلاء يصعب مجيء أمثالهم أو تربية أناس في مستواهم… لقد تلقن هؤلاء دروسهم منه، ونشأوا على نظم تربيته وهناك قول جميل ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه ضعيف من حيث السند يقول : “علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل”(1).

لا يمكن أن يبلغ أحد مرتبة الأنبياء من ناحية الفضل العام، ولكن هناك أوضاع خاصة يكاد يصل فيها بعضهم في مضمار السباق إليهم، وذلك من أمثال الذين ذكرنا أسماءهم آنفا، وأسماء أخرى يمكن ذكرها أيضا هؤلاء الأعلام مدار فخرنا، ولو طلب إشغال أماكنهم من قبل آخرين لكان من اللازم إنزال الملائكة من السماء إلى الأرض، ذلك لأن الملائكة وحدهم هم الذين يستطيعون تمثيلهم.

وهذا الأمر خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وحده. فالانتساب إليه وحده هو الذي يستطيع إعطاء مثل هذه الثمار، وهذا العطاء سيستمر حتى يوم القيامة وبعد عهد الجفاف الذي نعيشه من يدري من سيظهر من أصحاب هذه الخلال والصفات المقدسة من عظماء القلب والروح، فإن آمالنا معقودة عليهم من زاوية الأسباب. ولا أزال -منذ عرفت نفسي- أنتظرهم وأعقد أملي عليهم.

وقبل أن ننتقل إلى أصول تربيته العامة لنر أصول تربيته البيتية، فقد كان رئيس عائلة، وكان في بيته أولاد، وله زوجات وأحفاد.

أ- النبي  صلى الله عليه وسلم كرئيس عائلة :

لا شك أن هذه العائلة كانت أفضل وأسعد وأبرك عائلة في تاريخ الدنيا كلها، فالسعادة كانت تفوح منها أبدا.. لقد كانت هذه العائلة من أفقر العائلات في العالم من ناحية القدرة المادية، لأنها كانت تمضي شهور عديدة دون أن يطبخ في البيت طعام كالحساء مثلا(2). أما الأماكن المخصصة لزوجاته فكانت عبارة عن غرفة صغيرة لكل منهن أو كوخ صغير. ومع ذلك كانت زوجاته المحظوظات لا يبادلن الساعة الواحدة التي قضينها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدنيا كلها.. كن محظوظات ومطمئنات وسعيدات.

توفي أبناؤه جميعا قبله سوى بنته فاطمة رضي الله عنها التي قضت حياتها في ضنك، أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوفر لها أيضا حياة مرفهة مع أنه كان يحبها جدا وكذلك زوجاته. أما موقعه في قلوب الجميع في البيت فخارج عن الوصف.

وبعد وفاة والدها ذرفت فاطمة رضي الله عنها دموعا ساخنة لأيام طوال(3)، ولم تستطع الصبر على ألم فراقه سوى ستة أشهر فقط إذ لحقت به وهي متلهفة للقائه(4). لم يحب أي ولد أباه مثل حب فاطمة لوالدها، ولم يحب والد ولده مثل حب الرسول صلى الله عليه وسلم لبنته.. طبعا ضمن إطار من التوازن. لم تحب قط امرأة زوجها مثلما أحبت زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم يكن أي زوج محبوبا من قبل زوجاته مثلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محبوبا من قبل أمهات المؤمنين. وما من  شك أن هناك سببا لوجود مثل هذه الهالة من الحب حوله، إذ أن قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بتطبيق أصول تربوية مع القريبين منه أحدث في القلوب آلة حب وتعلق كبيرين. وتموج هذا الحب من هذه الدائرة الضيقة المحيطة به، وتوسع حتى شمل العالم بأسره، وكان هذا بعدا آخر من أبعاد شمولية الحب عنده.

تصوروا أنه عندما توفي لم يترك بيتا واحدا لزوجاته، إذ عشن حياتهن معه في غرف صغيرة.. هذه الغرف الصغيرة هي ما ورثنه منه صلى الله عليه وسلم.. هكذا ترك سيد المرسلين زوجاته في مثل هذا الفقر والضنك وارتحل عنهن، غير أنه ما من واحدة منهن اشتكت بكلمة واحدة طوال حياتها من بعده من هذا الفقر، ومع أن هذا الأمر خطر ببال واحدة أو اثنتين منهن، إلا أن تنبيه القرآن الكريم لهن أزال من رؤوسهن هذا(5)… وهذا المستوى الرفيع الذي هو نتيجة تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لهن. فما هذه التربية التي دخلت إلى  قلوب هذه النسوة وأرواحهن بحيث أصبحن لا يفكرن في شيء غير رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن صحبتهن له لم تستغرق كثيرا، علما بأنه لم يعطهن من الدنيا سوى ما تقدم ذكره إذن، فقد كان لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاذبية مختلفة تماما.. جاذبية تسحر ما حولها، وكان هذا الأمر أحد جوانب رسالته.

إن تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم دليل من أدلة رسالته… نكتفي هنا بالقول بأن البيت المبارك للرسول صلى الله عليه وسلم أصبح مدرسة لتعليم المسائل المتعلقة بالنساء. فالأوضاع الخاصة له كانت تُعرف ضمن هذا النطاق الشخصي والخاص ثم تنقل فيما بعد إلى أمته. إن تسعين بالمائة من الأحكام المتعلقة بالحياة الأسرية نقلت إلينا من قبل الزوجات الطاهرات للرسول صلى الله عليه وسلم، لذا فقد كان من الضروري وجود نساء من مختلف المستويات والقابليات في بيته، ولكي لا تضيع الأحكام الدينية الخاصة بالنساء والعائلة فقد تحمل  صلى الله عليه وسلم الزواج من عدة نساء بعد أن جاوز سنه ثلاثة وخمسين عاما.

… إذن، فمن يستطيع نقل الأحكام.. ولا سيما ما يتعلق منها بالنساء إليهن؟ ومن كان يستطيع نقل الحياة  الخاصة للرسول صلى الله عليه وسلم والأوضاع المتعلقة بطبيعته وأدبه في غرفة نومه إلى أمته؟ وهل كان باستطاعة امرأة واحدة فهم الدين وأحكامه ونقله كاملا بكل أسسه ونظمه؟… وما كانت امرأة واحدة تكفي لإيضاح هذه الأمور وهذه الأحكام. لذلك فقد كانت هناك ضرورة ماسة لمكوث عدة نساء قريبات من الرسول صلى الله عليه وسلم يراقبن أحواله عن كثب وعن قرب ثم ينقلنها إلينا، لقد كانت هذه ضرورة دينية محضة، ولم تكن لها علاقة بالحاجة البشرية للرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هذا هو السبب في تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا العبء الثقيل.

وبالإضافة إلى كون هؤلاء النسوة وسيلة لربط أقوامهن وقبائلهن برسول الله صلى الله عليه وسلم بأواصر القرابة فقد أصبحن وسيلة أيضا لحفظ مئات بل آلاف من الأحاديث الشريفة. ونستطيع أن نقول بكل اطمئنان وتأكيد بأن عالم النساء مدين لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم بالشيء الكثير، ومهما فعلن فلن يوفيهن حقهن.. أجل، فهذه هي درجة خدمتهن للدين.

… من يقرأ التاريخ والسيرة يرى أنهن كن راضيات بالعيش مع الرسول صلى الله عليه وسلم رغم كل هذه الأمور. ومع كل المهابة والوقار الموجودين في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يلاطف نساءه ويشعرهن بقربه منهن واهتمامه بهن، ومع هذا فقد أبقى هناك ستارا رقيقا على الدوام، وهو الستار الناشئ عن ارتباطه بالله وما ينتجه هذا الارتباط من الجو الذي يفوح منه جو الحياة الأخروية ذلك لأنه كان نبيا، وكانت نساؤه – قبل كل شيء – جزءا من أمته. لم يكن في الإمكان ملء الفجوة الحاصلة معه في علاقته معهن، إذ كان فريدا وممتازا في هذا أيضا، فلم يكن في مقدور نسائه تصور عالمهن من غيره.

… مرت فترة وُجدت معه تسع من الزوجات حيث استطاع إدارتهن بحيث لم تظهر أي مشكلة جدية في البيت.. فقد كان رئيس عائلة رقيق الحاشية موفقا ومحبوبا. قبل وفاته بعدة أيام خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال : “إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله” فما أن سمع أبو بكر رضي الله عنه هذا -وكان صاحب ذكاء وفطنة- حتى أجهش بالبكاء(6) ذلك لأنه علم أن العبد المخيَّر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يطل مرضه، إذ اشتد هذا المرض يوما بعد يوم، وبدأ يتقلب من ألم صداع شديد.. وحتى في هذه اللحظات لم يترك سلوكه الرقيق تجاه زوجاته فطلب منهن الإذن في البقاء في غرفة عائشة لعدم استطاعته زيارتهن، فوافقن على  طلبه. وهكذا قضى الرسول  صلى الله عليه وسلم آخر أيامه في غرفة عائشة رضي الله عنها(7) أجل، لقد راعى حقوق زوجاته حتى في أصعب الظروف.. هكذا كان إنسان روح وأدب ورقة.

ذ. محمد فتح الله كولن

————

1- كشف الخفاء للعجلوني 2/64، “الفوائد المجموعة” للشوكاني ص 286

2- البخاري، الهبة، 1، الرقاق، 17، مسلم، الزهد، 28

3- انظر: البخاري، المغازي، 83، ابن ماجة، الجنائز، 65، الدارمي،  المقدمة، 14

4- البخاري، فرض الخمس، 1، مسلم، الجهاد، 52، “مجمع الزوائد” للهيثمي 9/211، “الطبقات الكبرى” لابن سعد 8/29، “الإصابة” لابن حجر 4/379

5- انظر الآيتين : {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنت تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما}(الأحزاب : 28-29).

6- البخاري، الصلاة، 8، فضائل أصحاب النبي، 3، مسلم، فضائل الصحابة، 2

7- البخاري، الوضوء، 4، الأذان، 9، مسلم، الصلاة، 91-92

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>