المستقبل للإسلام …لكن كيف؟


من سنن الله في عباده توريث الأرض للصالحين من عباده واستخلافهم فيها قال تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين}(الأنبياء:104- 105)

نعم هذه سنة من سنن الله التي لا تتخلف، فقد خلق العباد لعبادته، لكنه سبحانه جعل استحقاقهم الاستخلاف في الأرض مشروطا بشرطي الإيمان وعمل الصالحات {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم ولَيُمكنَنَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ولَيُبَدلنَّهم من بعد خوفهمُ أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا}(النور:53).

ولا سبيل للنجاة من الهلاك والظفر بالاستخلاف ونوال رضوان الله تعالى إلا بأسبابه المادية والمعنوية، ولا سبيل لتحصيل الخيرية التي وعدت بها هذه الأمة إلا بالاجتهاد في جلب المصلحة ودفع المفسدة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : {كنتم خير أمة اخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله}(آل عمران: 10)، {ولتكن منكمُ أمة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك همُ المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات}(آل عمران : 104- 105).

ولقد أخرج رسول الله  رجالا كانوا نماذج في الإيمان والتقوى، وشامات في الخير والصلاح، وفي القوة في حمل أمانة الدين وتبليغه للعباد، ونماذج في التضحية والصبر والاصطبار والثبات على الحق والتواصي بذلك، والوفاء والصدق والعدل، وما حمل أحد منهم أمانة الدين والدنيا إلا كان قويا أمينا، صالحا مصلحا تحقق للدين بفضلهم بعد نبيهم  العز والسؤدد، واتسع نطاق رحمة الله تعالى بنشر دينه وأنقد الله بسببهم أناسا وأمما وشعوبا وقبائل.

وتوالى الخير في الأمة -رغم انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض- بقدر الإخلاص والصواب، إلى أن دالت دولة المسلمين وانقلبت إلى السيء بسبب تغييرهم ما بهم من النعمة إلى ما أوجب عليهم حلول النقمة: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم}(الأنفال : 54)، فانقلبت الأمة من نعمة الإيمان والطاعة إلى مظاهر من الشرك والمعاصي، ومن حال العلم والعمل إلى حال الجهل وكثرة الجدل وقلة العمل، ومن حال نعمة الوحدة واجتماع الكلمة إلى حال التفرق والتقاتل على فتات الدنيا، ومن حال الصلاح والإصلاح إلى حال الفساد والإفساد، فعمهم الجهل وكسرت شوكتهم وأركسهم الله بما كسبوا من التفريط في أمانة الدين والدنيا وترك سنن الشهود الحضاري، وحق فيهم -أو كاد- قول الله تعالى : {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا}(مريم:59- 60)

وكانت أكبر البلايا والشدائد التي حملت معها بشائر الخير لهذه الأمة وأعادت إليها وعيها بذاتها وبمكانتها وبشرائط الاستئناف الحضاري، حين سلط الله عز وجل عليها أعداءه وأعداءها فمرغوا كرامتها وكادوا أن يجعلوها أثرا بعد عين، فبعث الله تعالى رجالا جددوا دماء الإيمان فيها وزرعوا فيها بذور الحياة الإيمانية التي أعادت قسطا كبيرا من الأمة إلى صحوها ووعيها ورشدها، فأعان الله عباده المخلصين على تحقيق النصر في الجهاد الأصغر وهو إخراج الغرب وجيوشه المحتلة للبلاد والعباد، وبقيت أمام المسلمين بعد المرحلة الاستعمارية مرحلة الجهاد الأكبر: بناء الذات بالتربية والعلم والعمل، والإصلاح المادي والمعنوي، وتحرير البلاد من بقايا الاستعمار وتحرير العقول والقلوب من التغريب والتنصير والتهويد والتمجيس… لكنها كانت -حقا- عقبة كبرى ما نجح المسلمون في الخروج منها إلا بخسائر ثقيلة لأن الاستعمار ما خرج حتى ترك أولياء وأنصارا وأتباعا وحراسا من أبناء الأمة  كانوا أشد حرصا على إرضاء الغرب وليس إرضاء الله، وأشد فتكا بالمؤمنين من الغرب ذاته، وكانوا أمعن في محو ما تبقى من معالم هوية الأمة ومقوماتها، وذاقت الأمة ويلات مريرة من حكم اللبراليين والاشتراكيين  والبعثيين الذين اجتهدوا أكثر في تجفيف منابع الخير.

ثم أعقبت هذه المرحلة مرحلة الاستفراد الأمريكي والاستقواء العالمي للولايات المتحدة الأمريكية لتتفرغ لترتيب أوراقها في المنطقة وتعيد تقسيم البلاد المسلمة من جديد بقوة الحديد والنار ورغما على الحق والعدالة والقانون والشرعية. ونهج المنتظم الدولي الدائر في فلكها نهجا عدائيا للأمة وسن مشروعا عالميا وشاملا لتجفيف كل منابع الخير فيها في السياسة والاقتصاد والتعليم والقضاء والأسرة… فخضع القادة والساسة وأُسكِت صوتُ الشعوب المسلمة واتُّهم العلماءُ والعاملون وضُيق عليهم، وارتفعت أصوات المغرضين مهرولين للإجهاز على ما تبقى للأمة وفيها من خير وصلاح إرضاء للغرب.

ودخلت البلدان الإسلامية منعطفا خطيرا ادلهمت فيه الخطوب وتشابكت فيه الخيوط، والتبس الحق بالباطل على اللبيب قبل غيره، وكاد اليأس أن يصيب النفوس، إلا من رجال صادقين ذوي همم عالية وأعمال بانية: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين}(يوسف:110).

نعم بدأت بشائر خروج الأمة في كثير من أجزائها من شدائد الحقبة الماضية تلوح، وشرع نسيم الصحوة يُلمس هنا وهناك ويفوح أريجه، وبدأ الفساد وأهله وعملاؤه تنحسر أنفاسهم وتنحصر آفاقهم. وأصبحت الأمة على أبواب ولادة جديدة، لكنها ولادة تحتاج إلى عناية شديدة ورعاية للمواليد بحسن التغذية والتطبيب وتهيئة الوسط الاجتماعي للعيش السليم.

والمسلمون اليوم مدعوون أكثر من أي وقت مضى في جميع بقاع العالم الإسلامي إلى :

> أولا : حمل رسالة الإسلام بقوة وأمانة وصدق واعتزاز: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة}، وهو حمل يقتضي العلم بالدين وفقهه والتضحية في سبيل تعليمه وتنشئة أبناء الأمة عليه وفقه مقاصده وأحكامه وفقه مسالك التنزيل وتكوين جيل من العلماء العالمين العاملين المجتهدين، والإعداد لذلك بما يلزم من مؤسسات وموارد بشرية ومادية.

> ثانيا : العمل بهذا الدين في نفوسهم والتخلق به وبأحكامه والاهتداء بهداياته قبل دعوة غيرهم إليه، ويقتضي هذا إصلاح مناهج التعليم السائدة وترسيخ القيم التربوية الإسلامية وإصلاح مؤسساتها(الأسرة، المدرسة والجامعة، والإعلام…)، وإشاعة تداول القرآن الكريم ومجالسه، وترغيب الناس في العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله والعمل بهما والتشبت بمقومات الأمة والحفاظ عليها كل من موقعه.

> ثالثا: نشر الوعي أفرادا وجماعات، ومؤسسات وهيئات بأهمية التعاون على حمل مسؤولية الأمانة التي يحملها المسلمون اليوم في إصلاح البلاد والعباد والأرض وإنقاذ الناس كل الناس في العالم كله من الشرور والويلات والمفاسد التي أصابتهم ولا تزال بسبب النظم الفاسدة، ووجوب التحلي بالحكمة والأمانة والصدق في القول والعمل والاجتهاد في تمثيل الحق وتمثيل الإسلام.

> رابعا: العمل على بناء مؤسسات الأمة التي تعمل بالإسلام وللإسلام أحكاما ومقاصد، وتعزز وجوده الاجتماعي بعد بناء الفرد المسلم الصالح المصلح.

نعم بعد هذا وغيره من الواجبات يحق لنا القول إن المستقبل للإسلام.

وإنه لمستقبل قريب {إنهم يرونه بعيداً ونراه قريبا} وإنه ليزداد قربا كلما أعد السلمون لهذا المستقبل وضاعفوا جهدهم لنصرة هذا الدين بما يلزم من الإخلاص في العلم والعمل والتبليغ، وبما يلزم من الصدق في التخلق بأخلاق الحكمة والبصيرة، وصلاح الجوهر والمظهر، وحب الخير للناس والرحمة بهم والعدل بينهم، ومن التواصي بالحق والتواصي بالصبر. {والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}(سورة العصر).

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>