لم يلجأ الإسلام إلى العقوبة المادية إلا بعد فشل الزواجر الوعظية والتوجيهية في منع الفرد من تخطي الحدود الشرعية، وانتهاك المحرمات من الشهوات.
فلهذا اعتبر الإسلام عقوبة الوعظ من أهم أنواع التأديب الذي يحقق أغراض الشريعة من العقاب، وقد وضعت هذه العقوبة على أساس معرفة دقيقة بضعف الطبيعة الإنسانية أحيانا أم شهوة محرمة، أو نزوة عارمة، فجعلت عقوبة الوعظ من أهم ما يدفع المخطئ على الإقلاع المنبعث عن الرغبة في التوبة النصوح.
فالنفس البشرية كما يقول ابن القيم : فيها كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، ولغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة أي لؤم -هامان، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت، وجهل أبي جهل.
ونظرا لأهمية الوعظ في ردع النفوس، ورد المخطئ إلى رشده، وإيقافه عند حده، اعتبره الفقهاء ضمن العقوبات الشرعية، وأدخلوه ضمن “عقوبة التعزير” وهي عقوبة المقصود منها تأديب المخطئ وتربيته.
قال العلماء : وقد شرعه الإسلام لتأديب العصاة والخارجين على النظام، فالحكمة فيه هي الحكمة من شرعية الحدود بالقول مثل التوبيخ، والزجر، والوعظ.
والغاية من العقاب في الإسلام هي المنع من ارتكاب المحرم، ودفع المنكر وجعلت الشريعة أول مراتب المنع الدفع بالوعظ.
يقول الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله تعالى : وقد حصر الفقهاء الوسائل الصالحة لدفع المنكر في سبع وسائل هي : 1- التعريف. – النهي بالنصح والوعظ. 3- التعنيف. 4- التغيير باليد. 5- التهديد بالضرب والقتل. 6- إيقاع الضرب والقتل. 7- الاستغاثة بالغير(1). ولا شك أن عقوبة الوعظ والتوبيخ من اختصاص الواعظ، وعقوبة الضرب والقتل من اختصاص ولي الأمر.
فإذا تحقق المنع بعقوبة الوعظ فإنها تغني عن غيرها.
ويقول الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله تعالى : يعتبر الوعظ عقوبة تعزيرية في الشريعة الإسلامية يجوز للقاضي أن يكتفي في عقاب الجاني بوعظه إذا رأى أن في الوعظ ما يكفي لإصلاحه وردعه، وقد نص القرآن الكريم صراحة على عقوبة الوعظ في قوله تعالى : {واللائي تخافون نشوزهن فعظوهن..}(النساء : 34)(2) ذلك أن الوعظ. ضرباته لها وقع شديد على النفس، وأثر كبير على القلب والضمير، يقول الإمام بن رجب : المواعظ سياط تضرب بها القلوب، فتؤثر في القلب كتأثير السياط في البدن. ثم قال : وكان كثير من السلف إذا خرجوا من مجلس سماع الذكر خرجوا عليهم السكينة والوقار، فمنهم من لا يستطيع أن يأكل طعاما عقب ذلك، ومنهم من كان يعمل بمقتضى ما سمعه مدة.
ثم قال : أفضل الصدقة تعليم جاهل، أو إيقاظ غافل. ما وصل المستثقل فينوم الغفلة بأفضل من ضربه بسياط الوعظ ليستيقظ(3).
فالواعظ يستعمل عطا الوعظ ليسوق بها الناس إلى رحمة الله ورضوانه، وينافح بها عنهم إبليس وعدوانه، ويهش بها على النفوس الغافلة ويحرك بها الضمائر النائمة ويعلي بها الهمم النازلة وينبه بها القلوب اللاهية. هذه العصا يظهرها الخطيب في صورتها الحسية بين يديه يوم الجمعة على المنبر، ليبين أن الغاية من كرب المخطئ بالعصا قد “يتحقق بوعظه وزجره، فيغني ذلك في عقابه وتقويمه، فيكون الوعظ عقوبة بدلية تحل محل الضرب.
عن الحكم بن حزن رضي الله عنه قال : وشهدنا الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقام متوكئا على عصا أو قوس” وصححه ابن السكن، وله شاهد عند أبي داود من حديث البراء : “أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يعتمد على عنزة له؟ والعنزة مثل نصف الرمح أو أكثر فيها سنان مثل سنان الرمح.
ذ. عبد الحميد صدوق
————-
1- نقلا عن كتاب الإسلام للمرحوم سعيد حوى، ص 587
2- المصدر السابق
3- لطائف المعارف، ص : 13