خروق في سفينة المجتمع(4) تشتت الولاء، خرق كبير في سفينة المجتمع


يلتئم شمل سفينة المجتمع ويشتد عودها إذا اجتمع أهلها، ربابنة ومهندسين، وحراسا وطباخين، وركابا بجميع مستوياتهم ووظائفهم، على كلمة سواء، هي خريطة الإبحار، التي تعرف بها مجاهل المحيطات والبحار، وتحدد من خلالها المطبات والأخطار، وكذا محطات التزود بجميع الاحتياجات والمستلزمات، و هي قبل ذلك، كلمة السر التي تفتح بها المغاليق والأسرار، وهي -إذا تعلق الأمر بسفينة المسلمين- بسم الله، التي بها مجراها وبها مرساها، والتي إذا حيد عنها أوغفل عنها، أو حصل الذهول عن مقتضاها، لسبب من الأسباب، تعرضت عملية الإبحار للفوضى والاضطراب.

ومقتضاها هو الاعتقاد الجازم بأن لا سلامة للسفينة ولا وصول لها إلى بر الأمان وشاطئ النجاة، إلا بالاعتصام بحبل الله المتين، واللواذ بمنهجه القويم في تدبير أمر السفينة والبت في نوازلها ومشكلاتها، ثم العمل بمقتضى هذا الاعتقاد، مع استفراغ الوسع في ترسم خريطة الإبحار بجميع دقائقها وإشاراتها التي يستعان في فهمها بأهل الشأن من الخبراء العارفين بالخبايا، المستشرفين للمآلات، استرشادا بقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}( النحل:43)، وقوله عز وجل: {ولا ينبئك مثل خبير}(فاطر:14) هؤلاء الذين يسترشدون بالنموذج النبوي اهتداء وتفكيرا وتعبيرا وتدبيرا.

إن موقع  الكلمة السواء في تدبير أمر سفينة المجتمع هو صمام الأمان الذي يعصمها من كل زيغ وانفلات، أو تشتت وانقسام، من شأنه – إذا حصل-  أن يذهب بريحها ويوردها موارد الهلاك. ومن لوازم الكلمة السواء أن يكون كل ما يجري على ظهر السفينة منسجما مع تعاليم خريطة الإبحار، لأن كل مخالفة لذلك من شأنها أن تجر الوبال على أهلها على المدى القريب أو المتوسط أوالبعيد، علما بأن الصواب الذي يهدي إليه نموذج السفينة على مستوى التعامل مع الاجتماع الإنساني، هو التسوية بين المدى البعيد والمدى القريب في استشعار المهالك والأخطار التي تحدق بالسفينة جراء ما يحصل في أي جزء من أجزائها، أو زاوية من زواياها.

إن قاصمة الظهر فيما يحدث لسفينة المجتمع المسلم من ارتجاج وهزات، هو تعدد الولاءات بين أهلها، أي تعدد مرجعياتهم العقدية والفكرية  الذي يقوم على  التباين الكامل  والتناقض التام، ويتفاقم الخطب ويتسع الخرق إذا انتقل تضارب الولاءات والمرجعيات إلى من هم في غرفة القيادة والتسيير، فذلك موذن -إذا حصل- بنقض الغزل الذي نهى عنه القرآن الكريم، أو يدك الحرث كما يقال.

أما الطامة الكبرى فيما نحن فيه، فهي أن يستفرد بغرفة قيادة السفينة أناس غرباء عن أهلها في ولائهم الفكري أو المذهبي، فيسوقونها إلى حيث يريدون، غير عابئين بكونهم عبءا عليها ووبالا على أهلها.

وإذا كانت الحالة الأخيرة مستبعدة اليوم في ظل التحولات الموسومة بالربيع العربي، التي تسعى فيها الشعوب إلى استرجاع زمام تدبير أمرها وتقرير مصيرها، فإن الخوف كل الخوف، هو من بلقنة للخريطة السياسية، تجعل قيادة السفينة مضطرة لتلفيق خريطة الإبحار، وللرضى بأنصاف الحلول أو أرباعها، بما يورثه ذلك من عرقلة وتثبيط.

ما أسعد المجتمعات العربية التي  استطاعت أن تتطهر من داء التشرذم وآفة البلقنة، وقبل ذلك من بلاء الاستبداد والقرصنة، فإن ذلك من شأنه أن يعيد سفن تلك المجتمعات الجزئية إلى توازنها، وتجانسها وصفائها، في اتجاه إعادة بناء الذات، واسترجاع ما فات، وتوفير الشروط لجمع أسطول السفن الجزئية تحت قيادة كبرى، أو جعلها سفينة كبرى تخوض لجج المحيطات، وتمارس عملية الهداية والإنقاذ، على هدى وبصيرة من الميثاق الأسمى الذي يهدي للتي هي أقوم: القرآن الكريم، وبيانه الناصع: سنة النبي الكريم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وسيرته المطهرة.

إن بلقنة الخريطة السياسية من شأنها أن تؤدي إلى إهدار كثير من الجهود والأوقات، فما أحوج الوطن إلى صرفها في الارتقاء بمستوى الإنجازعلى  صعيد الأوراش المفتوحة طولا وعرضا، ومحاولة تدارك النقص، بل الفجوة الكبرى التي نجمت عن التسيب والفوضى، بسبب تسلط من ليسوا أهلا لقيادة سفينة المجتمع على مقاليد الأمور.

لقد أثبتت التجارب إن على صعيد المغرب، أو صعيد الدول العربية، أن ما يسمى بالتعددية  “المفبركة” لم تكن إلا عرقلة كبرى وعقبة كؤودا في  طريق التقدم والنهوض واسترجاع منعة الأمة وهيبتها، وأخطر من ذلك، الداء العضال الذي بدأ العرب يتخلصون من عقابيله وشروره، فعادت لهم نضارتهم ورواؤهم. إنه داء التزوير، وتزييف إرادات الشعوب، الذي درج على إنتاج مشهد سياسي كئيب، تمخض عن إحباط كبير كان كفيلا بشل فاعلية الأمة وتعطيل طاقاتها، وزرع اليأس في ربوعها، حتى أدركها لطف الله بها بانبثاق الربيع في أفيائها، فسبحان محيي الأرض بعد موتها.

إن وحدة الأمة عقديا ومذهبيا وفكريا نعمة كبرى، نستطيع أن نلمسها  ونراها رأي العين برؤية الشعوب التي أودى بها الصراع الطائفي والإيديولوجي، فمزقها شر ممزق، وأتى على مقدراتها وهددها في وجودها وكيانها. فالخلاف الذي ينطلق من التباين في الولاء العقدي والإيديولوجي نقمة وعذاب، وذلك على وجه الخصوص في المجال الحضاري الذي بناه الإسلام، وتشرب أبناؤه روح الإسلام على مر العصور.

إن الخريطة السياسية في سفينة المجتمع إذا كانت  “كثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات”، لا يمكن إلا أن تمثل عبثا سافرا ولعبة ممجوجة تذهب فيها الأعمار سدى، فهي بهذا الاعتبار اغتيال للأمة وأي اغتيال!!!

إن على الشعوب الإسلامية التي ما زالت تعيش على رواسب البلقنة أن تقلل من أضرار ذلك الداء، من خلال الاحتكام إلى مرجعيتها الإسلامية، ورفع صرح حقوق الإنسان شامخا كما هو في مفهوم الإسلام الحنيف. فليس الأمر في هذا المقام أمر تغليب أشخاص أو منظمات أو أحزاب، ولكنه أمر تغليب أمر دين الله ونصرة ملته، ودخول أهل سفينة المجتمع في السلم كافة، استجابة لأمر الله عز وجل:  {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}(البقرة:208)، ينبغي أن يجري السلوك على هذا المنوال، ضمن هذه الظروف والأحوال، إلى أن تتحرر السفينة من الدخن، وتتطهر من رواسب الماضي الممض ووعثاء السفر المرير، فتتمحض لدين الله العزيز الحكيم.  {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.

د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>