عُمَيْر بن وهب:
أشهَدُ أنَّكَ رَسُولُ اللَّه، فالْحَمْدُ لله الذي هَدَاني للاسْلام
كان أهل مكة يلقِّبون عمير بن وهب ب”شيطان قريش” لما كان يأتيه من الحيل والتآمرات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدهائه وفطنته وذكائه أرسلتْه قريش في بدر لِحَزْرِ(1) وتقدير أصحاب محمد، فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال : ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهِلُوني حتى أنظر أللقوم كمينٌ أو مددٌ؟ فضرب في الوادي حتى أَبْعَد فلم يَرَ شيئا، فرجع إليهم، فقال : ما وجدت شيئا.
ولكني يا معشر قريش رأيْتُ البَلاَيَا(2) تَحْمِلُ المَنَايَا، نواضِحُ يَثرِبَ تَحْمِلُ الموت النَّاقِع(3)، قوم ليس معهم مَنَعَةٌ ولا مَلْجَأٌ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يُقتل رجل منهم حتى يَقْتُل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فرَوْا رأْيَكم، (أي قَدِّرُوا الأمر على ضوء الواقع الذي صَوَّرتُه لكم أحْسن تصوير).
وكادت هذه الصورة التي قدَّمها عمير بن وهْب أن تفُتَّ في عضد قريش لولا أن أبا جهل أفْسَدَ عليهم رأيهم لحكمة لا يَعْلَمها إلا الله تعالى، فكانت موقعة بدر بما هو معروف عند المسلمين .
وكان وَلَدُ عُمير مِمَّن أُسِر فـي بــدر، فجلس ذات يــوم مـع صفوان بن أمية في الحِجْر فتذاكرا في بدر، وأهْلِ القليب ـ أي الموتى الذين دُفنوا في بئر بدر، ومنهم أبو صفوان أمية بن خلف ـ فقال صفوان : والله ما في العيش بعدهم خير.
فقال له عمير : صدقتَ والله، لَوْلاَ دَينٌ عليَّ ليس له عندي قضاء، وعِيالٌ أخشى عليهم الضَّيعة بَعدي لركبْتُ إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قِبَلهم عِلةً : ابني أسيرٌ عندهم.
فاغتنم صفوانُ الفرصة، وقال : عَلَيَّ دَينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي، أواسيهم ما بَقُوا لا يسعُني شيء ويعجزُ عنهم.
قال عمير: فاكتم عني شأني وشأنك، قال صفوان : أفْعَلُ.
ثم أَمَرَ عمير بسيفه فشُحذ له، وسُمَّ ـ أي وُضع فيه السُّمَّ ـ ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم من عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحا السيف، فقال : “هَذَا الكَلْبُ عَدُوُّ اللَّه عُمَيْرُ بْنُ وَهْب، واللَّهِ ما جَاءَ إِلاَّ لِشَرٍّ، وَهُوَ الذي حَرَشَ بَيْنَنَا ـ أي أفسد وأشعل نار الحرب، وحَزَرَنَا ـ قَدَّرَنَا ـ للقوم يوم بَدْرٍ”.
ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا نبيَّ الله هذا عَدُوُّ الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه قال صلى الله عليه وسلم : “فَأَدْخِلْهُ عَلَيَّ” فأقبل عمر حتى أخذ بحِمالة سيفه في عنقه، فلَبَّبَهُ بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار : ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: “أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، أُدْنُ يا عُمَيْرُ” فدنا منه ثم قال : أنعِمُوا صباحا. فقال صلى الله عليه وسلم : “قَدْ أَكْرَمَنَا الله بتَحِيَّةٍ خيرٍ مِنْ تَحِيَّتكَ يا عُمير، بالسَّلامِ تحِيَّةِ أَهْلِ الجنَّةِ” “فَمَا جَاءَ بِكَ يا عُمَيرُ”؟
قال : جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه.
قال صلى الله عليه وسلم : ((فَما بَالُ السَّيْفِ في عُنُقِكَ؟)).
قال : وهَلْ أغْنَتْ عنا شيئا؟!
قال صلى الله عليه وسلم : اصدُقني.
قال : ما جئت إلا لذلك.
قال صلى الله عليه وسلم : ((بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وصَفْوان في الحِجْر فذَكَرْتُما أَصْحابَ القليب، ثم قلتَ لولا دَيْنٌ علي، وعيال عندي، لخرجت حتى أَقتُلَ محمدا، فتحمَّلَ لَكَ صفوانُ بدَيْنك وعِيَالِك، على أن تَقْتُلَنِي لَهُ، والله حائلٌ بَيْنَكَ وبَيْنَ ذلك)).
قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك، بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوا لله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق.
فقال صلى الله عليه وسلم: “فَقِّهُوا أَخَاكُمْ في دِينِهِ، وأقرئُوه القرآن، وأطلِقُوا له أَسيرَهُ” ففعلوا(4).
المفضل فلواتي
رحمه الله تعالى
—-
1- حزر : حدَس، وخَمَّن، وقدَّر، وخَرَس، فتقول خرَس النخل وحزره قدّر أن به كذا وكذا من قنطار، وحزر جمعاً من الناس قدّر عددهم تخميناً.
2- البلاياج بليّة : وهي الناقة.
3- الموت الناقع : الموت الدائم البالغ الأثر، وسم ناقع : قاتل.
4- انظر سيرة ابن هشام وأصحاب الرسول 420/1- 422، انظر إلى أصحاب الفِِطر السليمة كيف يقتنعون بمجرد وضوح الحقّ لهم، وهذا عمير انقلب بسرعة من عدولله ورسوله إلى داعية لله وللرسول وللإسلام، فعلى أمثال هؤلاء ينبغي الحرص والتأني بهم حتى يقتنعوا.