الكثير من الناس يسمعون بالدين، وبالدعوة إليه، فلا يُلقون إليه بالا، أو يركبون رؤوسهم محاربين له، وطاعنين فيه بجهل وغرور وكبرياء، حتى إذا ما جابهَتْهم ظروف تمثل بالنسبة إليهم الصدمة التي توقظهم من غفلتهم، فيكتشفون مقدار جهلهم الذي أبعدهم عن الحق، فيؤوبون سريعا، ومن هؤلاء :
الحصين والد عمران ] :
“اللَّهُمَّ أَسْتَهْديكَ لِأَمْرِي”
جاءت قريش إلى الحصين ـ وكانت تعظِّمه ـ فقالوا له : كَلِّمْ لنا هذا الرجل، فإنه يَذْكُرُ آلهَتَنَا، ويَسُبُّهم، فجاءوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا : “أَوْسِعُوا للشَّيْخِ” وعِمرانُ وأصحابه متوافرون.
فقال حصين : ما هذا الذي بلغَنا عنك؟ أنَّكَ تشْتُمُ آلهتَنَا، وتذكُرهم، وقد كان أبوكَ حصِينةً(1) وخيرا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “يا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ مِنْ إِلَهٍ”؟
قال الحصين : سبعا في الأرض وواحدا في السماء
قال صلى الله عليه وسلم : “فَإِذَا هَلَكَ المَالُ فَمَنْ تَدْعُو؟”
قال الحصين : الذي في السماء
قال صلى الله عليه وسلم : “وَإِذَا أَصَابكَ الضُّرُّ فَمَنْ تَدْعُو؟” قال الحصين : الذي في السماء.
قال صلى الله عليه وسلم : ((فَيَسْتَجِيبُ لَكَ وحْدَهُ، وَتُشْرِكَهُم مَعَهُ، أَرَضِيتَهُ في الشُّكْرِ أَمْ تَخَافُ أَنْ يُغْلَبَ عَلَيْكَ؟))(2).
قال الحصين : ولا واحِدةً من هاتين(3)
قال صلى الله عليه وسلم : ((وَعَلِمْتَ أَنِّي لَمْ أُكَلِّمْ مِثْلَهُ))(4)
((يَا حُصَيْنُ أَسْلِمْ تَسْلَمْ))
قال الحصين إن لي قومًا وعشيرة(5)، فماذا أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم : “قُلِ اللَّهُمَّ أَسْتَهْدِيكَ لِأَرْشَدِ أَمْرِي، وزِدْنِي عِلْما ينْفَعُنِي(6)” فقالها حصين، فلم يقُمْ حتى أسلم.
فقام إليه ولَدُهُ عِمْرانُ، فقبَّلَ رأسَهُ، ويَدَيْهِ، ورِجْلَيْهِ.
فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بكى، وقال : “بَكَيْتُ من صَنِيعِ عِمْرانَ، دَخَلَ حُصَيْنٌ وهو كاَفِرٌ، فَلَمْ يَقُمْ إليه عمران، ولَمْ يَلْتَفِتْ نَاحِيَتَهُ، فلما أَسْلَمَ قَضَى حَقَّهُ، فدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ الرَّقَّةُ”.
فلما أراد حصين أن يخرج، قال لأصحابه : “قوموا فشيِّعوه(7) إلى منزله”.
فلما خرج من سُدَّة الباب، رأته قريش، فقالوا : صَبَأَ، وتفرقوا عنه(8)
إن سرعة إسلام الحصين رضي الله عنه يدل على :
1- أن فطرته كانت سليمة، وجهله ليس مركبا مبنيا على الأهواء والأطماع والأغراض، فبمجرد ما عرف الحق اتبعه.
2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف كيف يخاطب كل واحد من خلال مستواه هو لا من خلال مستوى الرسول صلى الله عليه وسلم أي أنه كان يخاطب الناس على قدر عقولهم.
3- أن هذا النوع هم الأكثرية في الأمة، وهم الذين ينبغي أن يُوجَّه إليهم الاهتمام لإزالة الغشاوة عن أعينهم، أما المبنيون بناءً أعوج من المتحزِّبين والعملاء وأصحاب المصالح فهؤلاء لا يومنون إلا عندما يدركهم الغَرق كما وقع لفرعون.
أ. المفضل الفلواتي
——
1- حصينة : أي كان عاقلا متحصنا بدين آبائه وأجداده.
2- أي هل تعبُد السبعة في الأرض احتياطا، ربّما يُغْلَب الذي في السماء فتجد الآخرين في الاحتياط؟ أم أن الذي في السماء تخصّص للشكر، والأرضيُّون لهم مهمات أخرى.
3- أي أن المسألة تقليدٌ للآباء وليس أن الذي في السماء يُخاف عليه من الغلبة.
4- لمْ أكلم مثله : أي لا أكلِم أحداً مثل الذي في السماء، لأنه لا يُوجَدُ مثله في الأرض، فالذي في السماء هو المتفرِّدُ بالملك والملكوت، والقوة والجبروت.
5- قوما وعشيرةُ آي كيف أواجههم وهم الذين يعيبون عليَّ تغيير عقيدة الآباء والأجداد، فهم حجر عثرة.
6- وزدني علما : أي أن الحصين يتوفر على علم صحيح بالله تعالى الذي فيالسماء، حيث وحده المطلوب في الشدائد، فلهذا دله الرسول صلى الله عليه وسلم على طلب زيادة العلم ليعلم أنه لا يحتَاجُ إلى مساعد في الأرض.
7- فشيعوه : أي سيروا معه لاظهار ضُعف مشركي قريش في مختلف تآمرهم.
8- انظر الإصابة والسيرة النبوية للصلابي 246.